بيت أبي

كل ما أذكره أننا كنا نشعر براحة شديدة حين نعود إلى هذا المنزل ساكنين أو ضيوفاً، ولم يكن سبب الراحة فقط وجود الوالدين والأمان العاطفي الذي يضفيه ذلك على أهميته

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/07 الساعة 01:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/07 الساعة 01:57 بتوقيت غرينتش

بيت أبي الذي أتحدث عنه ليس كتاب المعماري المشهور المهندس حسن فتحي، بل هو بيت أبي وأمي، الذي نشأت فيه والذي لم يتَح له أن يبنى على مخططات هندسية لحسن فتحي ولا للمعمار سنان، بل أعتقد اليوم أن أحداً لم يشارك والدي التخطيط لأي من مراحله، ولكنه ربما استند على تقدير موقف لحاجات الأسرة المتغيرة شاركته فيه أمي.

ولولا أن أبي -حفظه الله- قد غادر دنيانا منذ أعوام أي بعد أن غادر بيت العمر بأربع سنوات، لكنت استطعت أن أجد أجوبة كثيرة آخذة في الإلحاح عليّ منذ فترة، ومعظم هذه التساؤلات طرحت نفسها عليّ بشدة بعد أن انقضت الخمسون.

حين سكنت بيت أبي في حوالي العاشرة من العمر، كان البيت الصغير يشمل مساحة تقارب ثلث مساحة الأرض التي بُني البيت ضمنها، وظلت المساحة المتبقية من البيت تخدم أطباق السلطة والتبولة بنجاح منقطع النظير طيلة الثلاثة عقود ونصف التي عاشتها الأسرة فيه.

وأتذكر أن البيت حين بداية سكنانا أيام كان مؤلفاً من غرف ثلاث؛ واحدة للضيوف وكانت أشبه بما كان يسمى بغرفة المسافرين في البيوت المصرية الريفية، بمعنى أنه ليس لها باب يفتح على داخل البيت فلا يتاح لقاطنيها مثلاً معرفة شيء من خصوصيات البيت إلا ما قد يتناهى بصعوبة إلى مسامعه من أصوات علت على المعتاد وهي نادرة، وإضافة إلى غرفة الضيوف هناك صالة معيشة، وغرفتان، إحداهما للأبوين، والثانية للأطفال، ولكن بعد وقت لم يطِل بدأ البيت ينمو مع نمو الأسرة، فيضاف غرفة جديدة؛ ليصبح للأولاد غرفتهم وللبنات غرفتهن، ثم غرفة مستقلة للولد الذي وصل للمرحلة الدراسية الثانوية، يتلوها دمج غرفتين فتصبحان غرفة متسعة للضيوف الذين يحتاجون للمبيت وهي أكثر استقلالاً من سابقتها، ولها حمّامها الخاص الذي لا يحتاجه أهل المنزل.

وبعد ذلك تحولت بِركة السباحة البدائية بعد أن ثبتت صعوبة استخدامها إلى غرفة سادسة، وكلما نشأت غرف جديدة ينشأ معها صالات وممرات تؤدي خدمات إضافية، والأهم من ذلك أن جو هذه الصالات كان يمنحنا جواً مكيفاً بطريقة طبيعية يجعل جو الصيف الحار مقبولاً دون تكييف.

وببداية رحيل التسعة من البنين والبنات إلى جامعاتهم البعيدة أو إلى بيوت أزواجهن كانت تنتهي بعض الغرف وتتحول إلى أجزاء من الصالة الكبيرة التي وصلت سعتها مساحة كافية إقامة حفلات وداع للواتي تزوجن من البنات على نية الرحيل إلى مدن أو أقطار أخرى، بمعني أنها كانت تتسع لمائة من النساء مع منصة للعروس ومساحة صغيرة للأنشطة المصاحبة لمثل هذه الاحتفالات.

كل ما أذكره أننا كنا نشعر براحة شديدة حين نعود إلى هذا المنزل ساكنين أو ضيوفاً، ولم يكن سبب الراحة فقط وجود الوالدين والأمان العاطفي الذي يضفيه ذلك على أهميته، بل أيضاً إلى رحابة البيت وسهولة التواصل أو الانعزال فيه، وكذلك سهولة إيواء الضيوف من غير تضييق على خصوصية ساكنيه.

كنت أشعر أحياناً بحرج بسيط حين يأوي عندنا بعض الأقارب فترات قصيرة وهم في طريقهم لقضاء الإجازة فيه، أو لحضور بعض المناسبات العائلية التي تقتضي تواصل الأقارب، مصدر الحرج لم يكن البيت نفسه وإنما كان لأن الزوار يسكنون في مدنهم ضمن عمائر فيها مصاعد وأدوار متعددة، أو أن بيوتهم تحتوي على حمامات إفرنجية تختلف عن حمامات بيتنا العربية.

وحين غادرت بيت أبي بسبب الزواج وسكنت في حي أحدث وفي شقة حديثة، سرعان ما اكتشفت ميزة السقف الخشبي لبيت أبي من ناحية قدرته على تخفيف درجة الحرارة مقارنةً بالسقوف الإسمنتية المدعمة بالحديد التي تزيدك في الظهيرة صهداً على صهد، وحين كنت أحادث أطفالي الذين كانوا يقضون جزءاً من إجازتهم الصيفية مع أبناء وبنات عمومتهم، كانوا يبدون فرحاً كبيراً برحابة البيت، ومزرعته والحظيرة الصغيرة التي تحوي بعض الطيور، وتمد البيت ببعض احتياجاته، والفرن المحفور في التراب والفرن الموجود في الحديقة الذي تطهى عليه كافة أنواع المخبوزات بوفرة تنافس السوق، وضمن طقوس حفل عائلي يبعث على البهجة أكثر مما قد يسببه للوالدة من متاعب.

كان شعور الأبناء بهذه الأريحية لا يقل عن شعوري، وما زال ذلك هو إحساسهم رغم تقادم الزمن والبيوت العديدة في المدن التي سكناها.

ومن غير تعمد ذكر لي بعض أقاربنا من الأجيال التي بيني وبين أبنائي مرات عديدة أنهم كانوا يشعرون بالسعادة في بيتنا، الذي نسوا تفاصيله ولكنهم يرونه أجمل من بيوتهم التي كانت في أغلبها تقع في عمارات أنيقة في المدن الكبرى.

ما لم يستوقفني آنذاك هو أن البيت يقع علي شارعين؛ أحدهما يشبه ما يسميه المغاربة بالزنقة، والآخر شارع يبلغ عرضه عشرين متراً، يعني عريضاً جداً بمقاييس ذلك الزمان.

ورغم ذلك فإن مدخل البيت الرئيسي وممر العلاقات الإنسانية مع الجيران كان عبر باب الزقاق، وفي الأحيان القليلة التي رأيت فيها باب بيتنا المطل على الشارع من الخارج كنت أستغربه ولا أذكر أنني فتحته بمفتاح معي طيلة الخمس عشرة عاماً التي قضيتها فيه.

ولا بد أن أشير هنا إلى البيئة المحيطة، فمنذ اليوم الأول لسكنانا زرع والدي شجرة كينا فوق مركز تجميع الصرف الصحي، ما أتاح للبيت شجرة وارفة الظلال يصل علوها إلى ضعفي ارتفاع البيت، وكان البيت على طول جداره يحظى برصيف نظيف جاف.

منذ تزوجت سكنت خمسة بيوت تملكت منها واحداً، أربعة منها في عمائر متعددة الأدوار، يعني أنها تحظى بوجود مصعد، وكل منها بُني على مخطط هندسي رفيع المستوى وربما ما زال كل منها يحمل رسم مهندسه، وتحظى كلها بمطابخ حديثة وحمامات إفرنجية وسقوف منقوشة، وفيها ثريات.

لكنني كنت أشعر بعد سكناها بأنني لو أردت تلبية حاجات أسرتي وتطوراتها فربما كان يحسن ألا يكون هناك حوائط داخلية لأقوم بموالاة التغير فيها حسب حاجات الأسرة.

ورغم شعوري وأنا استأجرها بأنها كانت مختلفه، فإنني بسرعة أدرك أن كل البيوت واحدة، مجهزة لأسرة افتراضية ينتهي أمرها دائماً إلى تخطيط واحد مع اختلافات غير جوهرية في التفاصيل، فبحكم أن الحياة الأسرية محافظة، تنتهي كل البيوت إلى قسمين: قسم فيه غرفتان متداخلتان للضيوف، وآخر فيه غرفتا نوم أو ثلاث، يفصل بينهما صالة، والأغلب أن الجناح الداخلي لا تدخله الشمس لا أشعة ولا نوراً، اللهم إلا في القليل منها الموزع على طابقين.

ومن هنا فالغالبية الساحقة من نسائنا يفتقرن إلى فيتامين "د" بشكل مروع.

ورغم أنني أجد في بيتي كل الراحة والكثير من الترفيه، فإنني لا أشعر بالأنس إليه كما كنت أشعر بالأنس وسعة الصدر في بيت أبي، وحين أغادر أياً منها تنمحي تفاصيله من ذاكرتي وكأنني لا أملك فيه أية ذكريات، وكل ذكرياتي على جمالها تعاودني معلقة في الهواء وكأنها لم تقع في مكان ما على البسيطة.

ولعلّ شعوري بفقدان الأنس بالبيت الذي سكنته بعد مغادرتي بيت أبي هو ما دفعني منذ مرحلة مبكرة للاهتمام بمقالات وكتب ومقابلات المعماري المصري حسن فتحي الذي كتب بيت أبي، وعمارة الفقراء الذي نبهني مبكراً إلى قبح العمارات الإسمنتية، وصعوبة استيعابها للحظات الشاعرية والذكريات التي تشعرك بخصوصية البيت وإضفائه رونقاً عاطفياً وإنسانياً على حياة سكانه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد