ارتبطت مصطلح التمكين بذكرى سيئة لدى أذهان الكثير من السودانيين؛ إذ عرف تطهير الخدمة المدنية من غير الموالين لنظام الإنقاذ بعد انقلاب 89 بالتمكين، وسرعان ما تمت المقارنة بين ما حدث في أعقاب الإنقاذ وما أحدثه أردوغان بعد فشل الانقلاب عليه من فصل لكثير من كوادر مؤسسات الدولة وموظفيها، خصوصاً أن الذي قام بالفصل في كلتا الحالتين يعد إسلامياً في طيفه السياسي، الأمر الذي جعل المقارنة سهلة وداعية إلى لَبْس أيضاً، في هذا المقال أدفع بالحجج التي تبين ذاك اللبس، وتحاول أن تبرز وجه المفارقة بين التجربة السودانية سابقاً والتركية الآن.
لم أجد أكثر من التمكينوفوبيا ملاءمة للحالة التي تلبست الكثير من متابعي الحدث التركي، ولعلي وجدت في الإسلاموفوبيا أمراً قريباً لما حدث من حالة تشبيه، فالربط بين الإسلام والإرهاب ربط متعدٍ أو تعميمي، كما يطلق عليه أهل المنطق، مثلاً، إن قام مسلم أو مجموعة من المسلمين بفعل إرهابي، إذن جميع المسلمين إرهابيون والإسلام دين إرهاب. المثال السابق يعمم حالة أو ظاهرة على مجموع كلي فقط؛ لأن هناك رابطاً ربط بينهما، ففي الحالة التركية تم الربط بين ما حصل من تمكين بعد انقلاب الإنقاذ في السودان وبين الاعتقالات التي قامت بها الحكومة في تركيا بعد فشل الانقلاب، وفي اعتقادي أن الربط يتمركز أساساً في أن الفريقين يعدان من الإسلاميين، أما حدوث الانقلاب فلا يمكن الربط بين الحدثين، إذ وقع التمكين نتيجة للانقلاب في 89 ووقعت الاعتقالات بعد فشل الانقلاب في تركيا كمحاولة لحماية الدولة، حسب تبرير الحكومة التركية.
من أسباب الربط الذي حدث لا شعورياً لدينا في السودان، أن أغلب السودانيين في رأيي فقدوا الثقة في مؤسسات الدولة كالقضاء والشرطة والبرلمان، فحين تحدث تجربة كما حصل في تركيا بعد الانقلاب، يستدعي العقل التجربة التي مررنا بها في السودان ومعها عدم الثقة في مؤسساتنا السودانية لحماية الشعب السوداني من خطر تطهير الخدمة المدنية. لكن هل يعني هذا أن المؤسسات التركية هي مؤسسات عاجزة وفاقدة للثقة كالمؤسسات السودانية؟! هذا ما لا أظنه، في تركيا برلمان قوي جداً لا يسيطر عليه حزب العدالة والتنمية إلا بأغلبية بسيطة، بل يضطر للدخول في تحالفات حتى يستطيع تشكيل حكومة، إذن مؤسسات تركيا السياسية من أحزاب وبرلمان قادرة على حماية الدولة التركية من أي محاولة للحكومة الحالية للتسلط ضد خصومها السياسيين بعد الانقلاب، حتى حالة الطوارئ التي تم إعلانها قبل يوم لم تصدر إلا بعد موافقة البرلمان عليها ولشهر واحد فقط، أما في القضاء وإن كان قد تم اعتقال الكثير من القضاة وموظفي السلك العدلي إثر المحاولة الانقلابية، إلا أن نزاهة القضاء جعلت منه مؤسسة محترمة من كافة الأطراف، خصوصاً في الانتخابات البرلمانية والرئاسية والحكم بين الطعون، بل ساهم القضاء في توقيف كثير ممن حاول الانقلاب على الشرعية مسبقاً.
الأمر الآخر هو أن هنالك افتراضاً مسبقاً بأن مَن يحاسب على المحاولة الانقلابية هو فقط، لكن الانقلاب ليس أمراً عسكرياً فقط، إن كان العسكر هم من يتحملون ظاهر المحاولة فإن المدنيين يتحملون الكثير من التخطيط وتثبيت الانقلاب بعد وقوعه، وحينما نتحدث عن حركة كحركة الخدمة في تركيا، فإن الأمر يمكن أن يكون أكثر انتشاراً، الحركة ليست حزباً سياسياً يمكن حصره، لكنها حركة شعبوية متسعة تغلغلت في مفاصل الدولة جميعها، بل إن للحركة نظامها التعليمي المستقل عن النظام الحكومي من مدارس وجامعات تنتشر في جميع مدن تركيا وخارجها، ولا أبالغ أن حجم الحركة يمكن أن ينافس حجم الدولة في بعض جوانبها، هذا إن لم يفقها في كثير من المرافق، الحركة الانقلابية لم تكن انقلاباً لتغيير نظام الحكم بل هي محاولة لابتلاع الدولة ومؤسساتها إن صح التعبير، فكيف يمكن للدولة أن تتعامل مع أخطبوط كان قاب قوسين من ابتلاعها؟!! ولعل هذه المحاولة لم تكن الأولى في شاكلتها، إذ كانت هناك ثلاث محاولات قبلها اكتشفتها أجهزة الأمن قبل أن تخرج للعلن، وهو ما جعل قوائم المعتقلين جاهزة لدى أجهزة الأمن.
أحد مداخل اللبس أيضاً هو نعت الاعتقالات في صفوف المدنيين بالفصل، وهو ما تم نفيه، اعتقل ما يقارب العشرة آلاف مشتبه فيهم حتى يمثلوا أمام القضاء لارتباطهم بحركة الخدمة، وهو أمر قانوني لا غضاضة فيه، إلا أن ضخامة الرقم جعل الناس يتوهمون أن أردوغان قام بفصلهم للتو، وهو ما لا يتماشى مع الدستور، علينا أن نوازن بين حجم الحركة وحجم الاعتقالات والأمر الجلل الذي كان سيصيب الدولة حتى نفهم ردة الفعل الحكومية في تركيا، والتي تشابه الهيستريا، لكنها ليست هيستريا فوق القانون، حتى السرعة التي تتم بها الإجراءات كانت مطلوبة لأن انتشار الحركة في جسم الدولة قد يعطل الدولة نفسها دون انقلاب، الأمر الذي استدعى سرعة في الاستجابة، ولعل مشكلة الثقة في المؤسسات أيضاً تبدو واضحة إذا ما قارنا ما حصل لفرنسا إبان الهجمات الإرهابية الأخيرة، فقد تمت إحالة الكثير من كوادر الأمن ممن لهم أصول غير فرنسية للرصيف كإجراء احترازي، لكن الثقة في مؤسسات فرنسا جاوزت تلك التي نوليها لمؤسسات تركيا.
إذا كنا مؤمنين بالديمقراطية فعلينا أن نثق بالمؤسسات التي تنتجها، ولا تكون الثقة إلا في مواضع الشدة والامتحان، ولعل امتحان الأتراك اليوم من خارج الديمقراطية ومن داخلها في آن واحد.
يمكننا أن نتفهم ما يحصل من ردة فعل، لكن هناك شعرة ما بين الحفاظ على الدولة والتسلط، ما بين الأمن والحرية، انه التحدي الأكبر في التاريخ التركي الحديث، إما أن تنتصر الديمقراطية في مؤسساتها أو أن نشهد مولد فرعون جديد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.