"آدي حكايتي وكلامي
يكفي يا ناس والله ملامي
يا ما تعبت في أيامي
يا ما تعبت في أيامي واصل"
في ليلة مظلمة من ليالي الصيف الحار، تعالت الآهات من إحدى حجرات أحد بيوت قرية دندرة بقنا معلنةً ميلاد شاعر عظيم. مستقبَلاً، ستتحول هذه الآهات إلى كلمات يرددها أبرز مطربي مصر ويلحنها بليغ حمدي وتغنيها وردة ومنير.
وُلد عبد الرحيم منصور في 25 يونيو/حزيران 1942. نوى الرحيل إلى القاهرة في بداية الستينات بعد أن انتهى من دراسته الثانوية، التحق بكلية الآداب في القاهرة، وتعد نشأته أكبر مؤثر في كتابته. استقبلت القاهرة أشعار عبد الرحيم منصور وفتحت له صدرها؛ لأنه كان أقرب الشعراء تعمقاً في جذور الأرض التي شكلت الوجدان الشعبي واقترابه من سخونة الجنوب في مشاعر أهله المليئة بالمواويل الحزينة.
في إحدى رحلات لويس جريس بالصعيد لاكتشاف المواهب لتقديمها في مجلة "صباح الخير" بعموده الثابت تحت عنوان "المعذبون بالفن" وكان قد قدّم لمقابلة الأبنودي ودنقل، قابل حينها مصادفةً عبد الرحيم منصور فسأله عن منزل عبد الرحمن الأبنودي ودلّه الولد على الطريق، لم يرضَ منصور بفرض نفسه، انتظر حتى ينتهي من مقابلته.. وفي أثناء العودة، اقترب منه متردداً وعرض عليه أعماله التي أعجبت جريس وجعلته يتحدث عن عبد الرحيم في المقال نفسه مع دنقل والأبنودي. وهذه النقلة مكنته من بث أشعاره العامية عبر الإذاعة مع مجدي نجيب والأبنودي وسيد حجاب وأثْرت أشعاره كثيراً لدى عامة الناس والبسطاء.
كتب ديوانه الأول "الرقص ع الحصى" أواخر الستينات، وتحمَّل تكاليف نشره، وأهداه إلى أمه بنت الشيخ إسماعيل الخلاوي؛ لأنه لولاها لما أصبح شاعراً ولا أصبح لديه هذا الكنز المخزون من الشجن والصور، كما أخبر الشاعرَ مجدي نجيب.
وذلك ما دفع نجيب للرد عليه ضاحكاً: هل كانت أمك تقول الشعر؟
انفعل بتلقائية محببة: أنت ح تهزر ولا إيه. أمي هي الجذور الشعرية التي أمسكت بها، فعندما كنت صغيراً كنت أجلس بجوارها أمام الفرن وهي تجهز رغيف الخبر على نيران خشب السنط، وكانت تغني أمام النار، فأشعر بغنائها مثل النقوش والرسومات الملونة المحفورة على جدران معابد الفراعنة.
يا صديقى هذه صورة شعرية جميلة.
لم يلتفت إليه وأكمل: كنت أشعر بأن غناءها الغريب هذا هو الذي ينضج الخبز وليست نيران أخشاب السنط.. فكانت الكلمات لديه لها دور سحري في فعل كثير من الأشياء ومحرك أساسي للمشاعر والوجدان.
لم تُنشر باقي دواوينه بعد مصادرة ديوانه الثاني من قِبل جهاز أمن الدولة المسمى "الثورة والعسس" الذي كان يتحدث عن محطات مهمة لمصر في حقبة سبعينات القرن الماضي. له عدة دواوين لم تطبع وتم رفضها؛ مثل: "ذكريات قناوي" و"رباعيات الموت والميلاد" والذي أمر جهاز أمن الدولة بعدم طبعه، بالإضافة إلى "مسحراتي الفن" التي كتبها خصيصاً لإذاعة صوت العرب، وكذلك خطاباته الشعرية التي كان يلقيها بانتظام في الإذاعة؛ مثل: "خطاب من عيل تايه إلى المنادي" و"خطاب من طالب جامعي بالقاهرة إلى أهله بالصعيد"، ثم صدرت الأعمال الكاملة له في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 من الهيئة العامة للكتاب بعد سعي حثيث من أسرته.
كان إحساسه باليتم يسيطر عليه، ولذلك رغم صغر سنّه عندما جاء إلى القاهرة، أطلق على نفسه لقب الأب وكانت تجتاحه أحاسيس الأبوة لتعويض أصدقائه اليتامى عن الحب المفقود. وتأثر عبد الرحيم منصور باعتقال الشاعر أحمد فؤاد نجم، وزاد ذلك دخوله سجن القلعة لمشاهدة التعذيب بنفسه.
رغم توالي كثير الشعراء على الوسط الأدبي المصري، ولكن يبقى عبد الرحيم منصور له طابعه الخاص. قدم مع بليغ حمدي وقتها الكثير من الأغاني لكبار المطربين والمطربات وبرز اسمه خصوصاً في أثناء حرب أكتوبر، فكانت أولى وأشهر أغاني النصر من كلماته وتغنى بها أشهر المطربين والمطربات، فهو صاحب أغاني العبور الشهيرة التي يتغنى بها المصريون إلى الآن؛ مثل: "أم الصابرين" و"عبرنا الهزيمة" للفنانة شادية؛ و"على الربابة" للفنانة وردة؛ و"قومي عليكي السلام" و"أنا ع الربابة بغني" و"الله أكبر بسم الله بسم الله".
كذلك، كتب لأفضل مطربي عصره، ومن كتابته: "لو سألوك" و"بكره يا حبيبي" لوردة؛ و"جرحتني عيونه السودا" و"عطاشا" و"قضينا الليالي" لعفاف راضي؛ و"باعشق البحر" و"سكة العاشقين" لنجاة؛ و"يا طير الشوق "و"حبيبي يا متغرب" و"ياما القمر ع الباب" لفايزة أحمد.
تعرّف على الملحن النوبي أحمد منيب واستطاعا معاً خلق اتجاه جديد في الغناء يغلب عليه شجن الكلمات والألحان والحنين إلى الجنوب، فأخرجا "يا وعدي على الأيام"، و"ربك هو العالم"، و"المدينة"، و"الكون كله بيدور"، كما كان أول المكتشفين للمطرب محمد منير، وكان يعدّه مثل ولده، يجوب به جميع أماكن وجلسات المثقفين.
كان مولد أول ألبوم غنائي كتبه الشاعر عبد الرحيم منصور للمطرب محمد منير، هو "علموني"، ثم بعده ألبوم "بنتولد"، وبعدها توالت الألبومات والنجاحات. ويعد منصور ومنيب هما من صنع لون منير الجنوبي الخالص، فكلاهما من الجنوب وكلاهما تأثر بالبيئة والثقافة هناك.
تعد أوائل الثمانينات هي الفترة الأهم والأشهر في حياة عبد الرحيم منصور، حيث كتب لمحمد منير أغاني في ألبومَي "شبابيك" و"اتكلمي"، كما وضع سيناريو وحوار وأشعار فيلم "الزمار" لنور الشريف والمخرج عاطف الطيب، وكتب أولى أغاني المطربين عمرو دياب وعلي الحجار ومدحت صالح ومحمد ثروت ووليد توفيق.
رحل عبد الرحيم منصور يوم 28 يوليو/تموز 1984 وليس أغسطس/آب كما تذكر كثير من المصادر، رحل وهو لا يملك إلا منزله البسيط وكان يردد أن الشعراء يظلون فقراء لا يستفيدون شيئاً من أغانيهم، وبعد وفاته رثاه صديقه الشاعر فؤاد حداد:
ويا كلمتين تانيين
يا الاستغماية
يا مفضفضة معاي
يا سطر من واجبي
يا بنت عم النور
تعالي لما تزور
عبد الرحيم منصور
الشاعر الشعبي
هو اللي مد وقال
في ميتم الموال
هوّن عليك يا خال
ورد البلد صاحبي
أفضل أموت واحبي
المصادر:
برنامج "الموهوبون في الأرض"، بلال فضل، حلقة عبد الرحيم منصور
كتاب "من صندوق الموسيقى زمن الغناء الجميل"، مجدي نجيب
1- صدور الأعمال الكاملة للشاعر عبدالرحيم منصور عن "الهيئة العامة للكتاب"
2- عبد الرحيم منصور
3- اكتشاف 33 قصيدة لعبد الرحيم منصور ضد "أمـن الدولة" والتعذيب
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.