في حضرة الحكاية “7” | هل جربت الحب؟

في غرفة الدرس كان الجو قارس البرودة، جلسنا نجمع شتات ملابسنا، ونتدفأ في جيراننا، وفيما يتدثر كل منا بكل ما لديه من أوشحة، نزع "عبد الرحمن" سترته الجلدية الثقيلة، وأعطاها "يارا"، رغم كونها ترتدي واحدةً.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/22 الساعة 04:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/22 الساعة 04:45 بتوقيت غرينتش

"إلى التلاميذ في كل مكان، لم يخبرنا أحد أن الحب كان أشقَّ الفنون تعلماً".

سطرت الروائية التركية إليف شافاك هذه العبارة في بداية روايتها الأطول" الفتى المُتَّيم والمُعلِم"، ويبدو أن لديها وجاهة في ذلك القول، فربما نبحث عن الحب طوال الوقت، ونشكو منه عندما نصادفه، نتخيله كما في روايات العشاق، نتمنى كماله، نرسم حدوده في قلوبنا، لا عقولنا، وربما لم ندرك بعد كيف أنه كغيره من الفنون يحتاج وقتاً ودأباً لنتعلمه، فيما تبدو معلوماتنا حوله شحيحة وسطحية.

في غرفة الدرس كان الجو قارس البرودة، جلسنا نجمع شتات ملابسنا، ونتدفأ في جيراننا، وفيما يتدثر كل منا بكل ما لديه من أوشحة، نزع "عبد الرحمن" سترته الجلدية الثقيلة، وأعطاها "يارا"، رغم كونها ترتدي واحدةً.

ابتسمت لهما، وفكرت في أن ما فعله يبدو رومانسياً ظاهرياً، ولكنه أعمق من مجرد فعل رجولي فقط، بل هو فعل مُحِب لفاتنته، يتلقى زخات البرد بجسده المثقل بحبها ويتمنى أمانها، يهتم بتفاصيلها ويحميها وإن لم تطلب ذلك، تأتي راحتها أولاً حتى قبل نفسه.

تقول الشاعرة نهى البُلُك على صفحتها على الفيسبوك: "الحب أن يقل استخدامك لعلامات الاستفهام، وألا تحتاج لعلامات الترقيم"، ما أجمل هذه الجملة، هي ترجمة للمسافة الفاصلة بين عبد الرحمن ويارا، يبدو كساحر يحفظها كخطوط يده، يراقبها وهي تحكي وتلمع عيناه عندما يراها مقدمة نحوه، وهي تبدو كامرأة عريقة تُدرك حدوده وتجاريه، وتراه رجلها الأوحد، يتشاركان كل لحظاتهما معاً، يحضران للمحاضرة والمطعم والتصوير، وينهيان يومهما على شرفة غرفتهما يتحدثان.

تبدو قصتهما مكررة في المطلق، رجل وامرأة جمعهما حب، ولكن ربما ما يميزهما إعلان حبهما أمامنا بلا خجل، رغم كوننا مجرد غرباء في دورة تدريبية، فلا يخبئان شوقهما خلف نظرات مُختلسة.

جميعاً ورثنا أن الحب لا بد أن يبقى حبيس جدران البيوت وأضلع المحبين، نحرص على ألا ننثره أمام الآخرين خجلاً مرات وخوفاً من حسد مرات أخرى، أما هما فكانا يعيشان حبهما كما يشعران به، لا ينشغلان كثيراً بنا، بل يمضيان معنا ما يجب من أوقات الدرس بجدية واهتمام وينصرفان ليبدأ وقتهما، يشعلان أرجيلة أحضراها معهما خصيصاً لأوقات المزاج، يجلسان في شرفة غرفتهما ينفثان مع دخانها محبة خالصة تحاول خطف لحظات عشق من زمن بات عزيز العطاء لتصدح ضحكاتهما في ليلنا الساكن مُعلنة أن في الجوار مُحِبين.

في أول أيام مخيمنا عرّفا نفسيهما، بدأ عبد الرحمن يحكي عن خبراته وهواياته، ولماذا أتى إلى هنا، ولحقته يارا بخجل يليق بلقاء أول بين غرباء، ليردف أستاذ معاوية بعد انتهائهما جملة صغيرة قائلا: "يارا زميلتنا وزوجة عبد الرحمن".

عرفت لاحقاً أنهما نزحا أثناء الحرب من سوريا؛ ليستقرا في إسطنبول، تزوجا بعد اندلاع الثورة، تحمل ملامح الرجل عبء الحرب الثقيل، رغم سنوات عمره الشابة يرتسم الحزن على وجهه دوماً رغم محاولاته الخلاص بالانخراط في نكاتنا.

يغيب عبد الرحمن عن وجبة الغداء فيسأل عنه أستاذنا، فتجيب "يارا" ضاحكة كعادتها: "عبودي" -كما يحلو لها أن تناديه- لا يحب هذا النوع من الطعام، وتُعَدّد أنواع الطعام التي لا يتناولها، وتنوه بأنه يفضل الوجبات الخفيفة غالباً، نداعبها مهنئين على خلاصها من عناء الطبخ.

"يارا" لا تفارقها ابتسامتها، تنثر شعرها غجرياً يناطح الدنيا ويبقى معلناً أن هاهنا امرأة غير عادية، تحدق بنظرتها القوية في وجه الزمن؛ لتتحدى ما فعله بهما، فقد تركا وطنهما أثناء ويلات حرب، فيما ودعا كثيراً من الأحبة والأهل الذين قضوا في الحرب أو نزحوا هرباً منها، بنصف ذاكرة في سنوات مرت في سوريا ونصفها الآخر غائم لم تظهر شمسه بعد يرسمان مستقبل محبتهما وسط هذا الواقع المرير.

ابتهجت لوجود عبد الرحمن ويارا وسطنا، لم يثيرا مشاعر الغيرة داخلي بقدر ما أنعشا ذاكرة الحب، فلكل منا تجربة حب سطرت فصولاً في حياته، حب الطفولة البريء، وحب المراهقة المندفع، وحب الجامعة الرومانسي، وربما صادفنا حباً أفضى إلى الزواج، الذي هو اختبار حقيقي للمحبة.

يقولون إن الزواج يقتل الحب، يحوله إلى حلم ضائع وسط روتين الحياة العادية، فيما يجب أن يكون هو المُعين على الحياة بكل ما فيها!

يضيع الحب غالباً؛ لأننا نقف عند مواطن الرومانسية فيه، فلا نتخيل هذا المحب إنساناً عادياً يغضب ويمل ويتغير وفقاً لمزاجه ومزاج العالم من حوله، يختلف عنا في أشياء، ويشبهنا في بعضها، يخطئ ويصيب، يزداد قرباً أو يبتعد وفقاً لتلك الدوائر التي يرسمها في الروح لا المكان والزمان.

تزداد وطأة الاختبار عندما نصطدم بتفاصيل الحياة اليومية العادية كالملل من التفاصيل الصغيرة، وتلك العوالم المنفصلة التي يخلقها كل واحد بعيداً عن الآخر، ناهيك عن الاهتمام بالأهل والأصدقاء والمعارف ومطالب الصغار التي لا تنتهي وتفاصيل العمل المزعجة، ومن يصمد أمام كل هؤلاء؟!

تقول صديقتي المعروفة بالرومانسية في زمن لم يعد كذلك: إن الحب ينتصر على كل هذه الأشياء المكررة، فقط عندما يكون حقيقياً، عندما تشعر أن رأسك لن يرتاح إلا على صدر ذلك المحب وحده، ليس لأنه يتميز بشيء خارق، بل لكونه الوحيد الذي يمكنه فهمك، والتواصل معك، عندما يكون اختصاراً لما تريد قوله بلا مبررات، عندما تستطيع أن تصرخ في وجهه من دون حساب، وتحكي له من دون خوف.

وينتصر الحب بعد الزواج انتصار الفاتحين، ففي تلك اللحظات المسروقة قبل انتهاء اليوم في حكايات الفضفضة قبل الخلود للراحة، هنا تتحول رائحة الجسد إلى عطر، وحديث المساء إلى ذكر، يواصل خيط المحبة نسيجه الدقيق؛ ليكون ملاذاً آمناً وقت شدة، وعناقاً حاراً وقت خلاف.

أعادني كلامها إلى تلك الرواية العتيقة "الفتى المتيم والمعلم"، تذكرت تفاصيل قصة حب الفتى الهندي "جهان"، سائس الفيل الذي عشق ابنة السلطان الأميرة "مهرماه"، ظل معلقاً بحبها وإن كان مستحيلاً حتى النهاية، وهنا حب من نوع آخر.. حب بلا غاية ولا أمل!

صباح اليوم التالي قبل الغداء جلسا على شاطئ النهر يثرثران، ويتبادلان حواراً بدا ودياً، قد يناقشان كيف ستبدو ملامحهما بعد المشيب، وهل سيظل حبهما صامداً رغم مأساوية هذا العالم؟!

تذكرت فيلم the notebook الذي يحكي عن شاب فقير وفتاة ثرية وقعا في الحب رغم كل الاختلافات بينهما، بداية من الطبقة الاجتماعية، حتى الطباع الشخصية، حاربتهما الحياة وحاولت الإيقاع بحبهما في شرك الجفاء، ولكن البطل أصر على مواصلة الطريق؛ لينعم بحبيبته زوجة، لينجبا ويكبرا معاً، ولم تنته تحديات حبهما هنا، بل غرقت البطلة في بحر النسيان، حتى إنها نسيت حبيبها وزوجها، ولكنه لم يمل، ظل مُصراً على البقاء بجوارها في مشفاها؛ ليقرأ لها يومياً من مذكراتها التي سطرتها وقت شبابها وكأنه يحكي عن اثنين آخرين.

كانت تنهمر دموعه عندما تفيق للحظات متذكرة حبيب عمرها، وما تلبث أن تضيع مجدداً في عالمها البعيد، فيعاود الكرّة مجدداً، حتى تأتي تلك اللحظة التي ترحل فيها عن الدنيا ويده مطبقة على يدها؛ ليودع العالم معها نفس اللحظة، تبدو القصة رومانسية للبعض ولكنها حقيقية جداً، كانا يتشاجران كثيراً، ويواجهان لحظات حبهما بصراحة، ولم يستطِع أي خلاف أن ينهي الحب.

انتهى التصوير وبدأ اليوم الأخير لإنهاء مشروعنا في المونتاج، كان يوماً مرهقاً لم ننَم تلك الليلة؛ لننهي مشاريع تخرجنا، أطل الصباح ونحن على حالنا نضع المشاهد متتابعة ثم نستبدلها بأخرى، نشاهد بعضها سريعاً، ونحاول اللحاق بقطار الوقت الذي بات سريعاً جداً، بدت غرفة الطعام كخلية نحل للمجموعات نتناوب النوم قليلاً على الأريكة المزخرفة بنقوش الفيلة الزاهية، ولا يقطع سكوتنا سوى خيوط الصبح التي بدأت تتسلل إلى غرفة الطعام، عبثاً حاولنا لملمة ما بقي من مشاهد في دقائق، انتهينا بعد الوقت المحدد، واقتطعنا وقتاً قصيراً لإفطار سريع، ثم بدأت مشاهدة الأفلام.

تخيلت أن مشاهدة مشاريع تخرجنا وتقييمها أصعب ما سيمر علينا في هذا اليوم، ولكن القدر خبأ لنا ما لم يمر بخيالنا.

يمكنكم الإطلاع على السلسلة من خلال الروابط الآتية :

في حضرة الحكاية "1"| هل صادفت الشغف؟!

في حضرة الحكاية "2" | لا تنسَ.. أحضر قلبك معك!

في حضرة الحكاية "3" | عن ورود حياتنا وأشواكها

في حضرة الحكاية "4" | غامر… لا تدع الخوف يأسرك!

في حضرة الحكاية "5" | فكر جيداً.. ماذا ستترك من أثر؟!

في حضرة الحكاية "6" | ضع حياتك على خط النار

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد