سأكون يوماً ما أمك، سأمسد شعرك وأطعمك، وأعلمك أن الدنيا على وسعها لا تستحق شيئاً، سأتحول فجأة إلى أفعال أمي التي كانت تغيظني، فأقول لها: "لن أفعل ذلك لطفلي أبداً".
أعرف أنك يوماً ما ستحبني على مقدار ما سأمنعك، وستعرف لماذا لم أنجبك حتى الآن، يقول البعض إن العالم بشع ولا يريدون الإنجاب، وتمنع الآخرين ظروفهم المادية من تحمل عبء جديد، بينما يلهث البعض خلف إصبعِ طفلٍ واحد دون حول منهم ولا قوة.
ما يحول بيننا يا صغيري معضلة من نوع آخر، أخافُ من السعي لطلب خلقك، وأتمنع عن الرغبة بجودك؛ لخوفي عليكَ مني، من انتزاعي لروح الطفولة فيكَ عندما تراني أعكف على تنظيف الأرض دون أن آبه لدماك أو لرغباتك الملحة للَعب؛ لأنك في الحقيقة ستبدو مصدراً للفوضى في مكان أريد أن يكون نظيفاً ومنظماً على الدوام، سوف أوبخك دون وعيٍ مني لكونه حقاً بديهاً لحرية اللعب.
أخاف أن أخرج إلى عملي مطمئنة إلى حاضنة أضعك بين يديها؛ لتعاملك ببشاعة وتبث ما ورثته في سمائك، أوأُطلقها لتغدق عليك حباً ليس باستطاعتي التخلي عنه لسواي!
سأعود متأخرة جداً، ستسألني: "ماما.. ما هذه الكلمة؟"، وسأكون مشوشة من ضغط العمل، لأجيبك بأنني قلتُ لك ألف مرة ما هي هذه الكلمة، لكن والدك سيأتي ليعطف عليك بدلاً مني، ويعلمك كل الكلمات التي لم أكن جديرة بتعليمك إياها، وربما، ربما.. لن يفعل.
في كل مرة أقرر فيها الخروج إلى فعالية أو ندوة أو مشاهدة فيلم، سأفكر ألف مرة، ماذا أفعل بك؟ قد أتقاسم مع والدك أوقات رعايتك حينها؛ لأنك لا تعرف كم أن والدتك تحب السينما.. لكنك ستدرك لا محالة مقدار الأنانية التي تجعلني أفعل لي، لا لك.
ستكبر يا عزيزي، وسيعطيك صديقك سيجارة لتمنحك القليل من الصبر على درجاتك المتدنية ووالداك غير المتفهمين، قد يأتي يوم الآباء في مدرستك وتنتظرني أمام البوابة مثلما كنتُ أفعل في صغري، ستأتي ماما، ستأتي الحبيبة وستمدحني المعلمة أمامها، ستضع يدها على رأسي وأنا أرفعه ناظرةً إليها بفخرٍ وانتصار، وسأخرج معها في منتصف الدوام المدرسي لإغاظة بقية زملائي، لكنني أعرف كم ستتألم عندما يمنعني العمل عن القدوم إليك.. أنتَ حتى لن تنسى أن والدتك لم تمنحك هذا النوع من شرف المحبة.
سيعلمونك في المدرسة الصلوات الخمس، وإذا ما رأيتني لا أصلي، ستبتهل إلى الله أن أكون أماً جديرة بوجودك أكثر، وتتمنى لي الهداية والمغفرة التي قد أكون لا أستحقها.
رُبما لن تحبني عندما تراني أثرثر مع الجارات وأخرجك من الغرفة حتى لا تسمع أحاديث الكبار، وقد يزعجك أن والدات أصدقائك يطهون الطعام أفضل مني، هذا إن حاولت طهو الطعام لك.. هذه مهنة أسيء فهمها كلما زاولتها، فأتوقف.
ستنزعج من سهري الطويل وصحوي المبكر، ستطلب مني صنع البرجر، لكنني سأجبرك على الخضار المسلوق، التي أنا نفسي لا أحبه، الأمهات الجيدات يأكلن هذا النوع من الطعام أمام أطفالهن لمشاركتهم، لكنني أكذب عليك.. ولعل أكثر أكثر ما أخافه هو الكذب عليك.. حتى تلك التي يسمونها كذبة بيضاء.
ستسألني كيف أنجبناك؟ ولن أجيبك، ستحب الذهاب للعب مع أصدقائك، لكنني سأمنعك، سأقنن وقتك، سأسهب في هذا التعذيب الذي ستفهمه عندما تصير أباً، سأحضر لك كرة مطاطية منزلية، كلما لعبتَ بها سأنزعج وأرميها من النافذة مثلما كنتُ أفعل بإخوتي الصغار عندما يزعجونني، على أية حال، أصدقاؤك سيقولون لكَ كيف أنجبناك، حينها لن تبادر بمشاركتي هذا النوع من المعلومات، ولن أحاول الخوض معكَ فيها لأسباب تكاد تكون مبهمة.
أخاف يا حبيبي ألا أتفهم متطلباتك الكثيرة، سيارة بريموت كنترول وسكوتر، سأقول لكَ بأن الوقت لا يزال مبكراً على حمل الهاتف النقال، وستحاججني بأن جميع أصدقائك لديهم هذا الهاتف.. ربما ستكرهني عندما ترى نفسك غير قادرٍ على مواكبتهم، لكن كيف لكَ أن تفهم بأن الحياة ليست هذه الأشياء، وأن المستقبل ينتظرك وعليكَ صناعة حرفة جميلة للاستمتاع بها، كم أود تعليمك الموسيقى، حينها ستسمع مفردة "كافر" لأول مرة، لكن لا تأبه.. هذا النوع من المواهب يمتد معك حتى آخر العمر، وإن أكملته دون أم.
لدي الآن العديد من قصص الأطفال لأجلك، هل تحب القصص؟ سأجعلك تفعل، لكنني قد أبغض كوني أماً فاشلة، عندما أراك تبحث عن كل أنواع المتعة ما عدا القراءة، كيف سأجعلك تحب ما أحببته دائماً، ما لم يحبه والداي فيَّ دائماً؟
كلما قالوا لي تخلي عن بعض كتبك، أرفض، مع أنني أستطيع شراء الكتاب ذاته، على غلاف كل كتاب تاريخ قراءتي له، وبعض الهوامش التي ربما ستقرأها لتقول بأن أمك مرت من هذه الفكرة، أخبئ هذا المخزون الأدبي المتواضع ليُعطيك ما أعطاني إياه العالم، ولو كان مجرد ترهات.
أرجوك.. لا تعتبره ترهات.
قبل عدة أيام، أنجبت قطتنا ست هررة، تأملتها وهي تعاني من إرضاعها جميعاً في آن، كلما اقتربتُ من أحدها تجلس بجانبه أو فوقه لحمايته مني، تمسدها بأطرافها مانعةً عنها برودة التكييف المنزلي، تلعقها واحداً تلو الآخر لتنظفها مما علق فيها من حليب، كلما سَمِعت "مياو" من أحدها، تلهث إليه دون اكتراث لطعامها الذي تركته وراءها.
فكرت، إن أنجبتك، هل سأستطيع الاندماج في هذا النوع الفطري من الأمومة؟، العناية بِك كأنك همي الأول والأخير، وإعطاؤك كل ما أملكه من وقت، أو تقاسم وقتي معك.. حتى أكون أماً فخورة بطفلها السعيد؟
صغيري.. سأجلب لكَ قبل البلايستيشن.. قطة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.