عندما تكون معاصراً لحدث ما، فإن الحديث عن هذا الأمر لا يبدو جذاباً أو مثيراً للاهتمام أبداً، سواء لك أو لغيرك من الذي حولك ممن هم على اطلاع بهذا الأمر، الأمر يجذب اهتمام مَن هم بعيدون كل البعد تماماً عن هذا الواقع أو لم يعاصروه؛ لذا وجب الحديث عن بعض التفاصيل الصغيرة المرهقة للسنوات المتتالية للحرب في سوريا التي أصبحت حتماً تاريخاً.
الكثير من الصعوبات التي واجهتنا -نحن السوريين- في سنين الحرب الأولى، هي لأننا نعيش في بلد لا وجود للطوارئ والكوارث فيه، أي الحياة تمضي بشكلٍ روتيني بحت؛ لذا واجهنا صعوبات لم تكن بمقدورنا بالبداية التأقلم معها وتجاوزها، إلى أن رأينا أنها واقع أبدي ربما يطول، وجدنا أنفسنا مجبرين على تجاوزها بشتى الطرق والسوائل.
أذكر أنني صحوت على نفسي والحرب مشتعلة في كل مكان من حولي، هو حصار لكن لا أحد يحاصرك، هو الموت الكل يقتلك والكل يقتل بالكل، هي العتمة تسللت لداخلك، لا ترى سوى الدماء، سوى الطلقات لا تسمع.
في صالون بيتنا الكبير، مدفأة الحطب تنشر الدفء في أجساد الشباب ممن التفوا حولها طامعين بدفئها، منتظرين إبريق الشاي حتى يعلن البخار المتصاعد منه بأن الماء أصبح جاهزاً لوضع الشاي اليابس الذي ما إن يبتل بالماء حتى ينشر تلك الرائحة المحببة الزكية، وكأس الشاي كانت ضيافة راقية ودليل حب وكرم لا مثيل له، لانقطاع جميع أنواع المحروقات من غاز الطهي والبنزين.
مدفأتنا كانت هي الوحيدة تقريباً مشتعلة بالحي، كون أخي قام بإحضار الكثير من بقايا الخشب من المنشرة التي يعمل فيها في الصيف المنصرم، ولأن الحرب اشتعلت فجأة وانقطعت المحروقات فجأة والشتاء حل باكراً حاملاً معه برداً لا ينتهي وعتمة كأنها تنذر بسواد عظيم آتٍ، حتى القمر كان قليل الظهور في شتائنا، يبدو أن ليالي الحرب لا تواتيه، وإنما هو قمر للعاشقين.
بعض الشباب وهم كثر ممن قرروا البقاء في القرية تجنبوا النزوح؛ ليحافظوا على ممتلكات عائلاتهم وأرزاقهم من السلب والنهب واللصوص، اقترح بأننا يجب أن نلهو قليلاً ونلعب بالورق؛ حيث لا هاتف يعمل بشكل جيد ولا كهرباء لمشاهدة التلفاز، التيار انقطع عندما قرر قائد القطعة العسكرية المجاورة تدمير برج الكهرباء الذي يغذي منطقتنا بالكامل كونها معارضة، أخبرتهم بأن ضوء الشمعة لا يساعد أبداً فنورها الخافت لا يكاد يضيء شيئاً، ومن الصعب إشعال الكثير منها لسعرها الذي ارتفع بشكل جنوني وتجنّب سقوطها على الأرض واشتعال الحرائق، وكان رأي ابن عمي بأن البعض من سكان القرية يستعملون المازوت (في حال تواجده كان سعره عالياً جداً)، وخلطه ببعض الملح لتجنب الرائحة الكريهة المنبعثة منه والدخان الأسود الناتج عن الاحتراق من أجل استخدامه في ضوء الكاز الذي كان منقرضاً تماماً وتمت إعادته للحياة من جديد.
في الصباح من كل يوم لا داعي للاستيقاظ باكراً، ليس هنالك ما يدعو لذلك وليس هنالك من شيء تفعله، لا عمل ولا طابور للخبز؛ كون الخبز مقطوعاً تماماً ولا أي الشيء البتة، عندما تستيقظ من نومك تتسلل لأنفك رائحة حطب يحترق، ومن ثم رائحة خبز التنور الشهي الذي كنا لا نشم رائحته ولا نتناوله إلا في المناسبات، أو عندما نذهب إلى بيت الجد، غدا تواجده روتيناً يومياً، وبتعبير أدق لا يوجد غيره، لأن النسوة رأت فيها بديلاً مقبولاً لخبز الفرن الذي جافانا وما عدنا نراه منذ اندلاع الحرب.
كان هنالك تنور وحيد في الحي، وكان هنالك طابور من النسوة لا ينتهي عليه، الكل يريد أن يخبز، لا تنفع معهن تبريرات صاحبته تلك المرأة الطاعنة بأنه لا يوجد حطب كافٍ، فهي لم تكن تتوقع بأن كل هذا الكم من الخبز سيُخبز على تنورها؛ حيث الحطب المستخدم كان من بقايا المزروعات الصيفية من القطن وغيره، ويتم جمعه من أجل هذا الغرض، كان التنور لا يهدأ أبداً وحتى في أقسى الظروف الجوية، حيث قام بعض الشباب بصنع مظلة خفيفة من النايلون لتجنب المطر.
والكثير الكثير من المواقف التي لا تنتهي، وكثير من اللحظات التي عشناها وغدت للذكرى، ولكن كلما أغمضنا عيوننا نرى وكأننا نعيشها بكل تفاصيلها، جروح الحرب وآثارها لا تغيب عن الجسد ولا عن النفس، هذه نفحة من ذكريات سنة أولى حرب، وما زال هنالك العديد من السنوات للحديث عنها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.