منى بدر هي فتاة في بداية العقد الخامس من عمرها، لم يحالفها الحظ في أن تحظى بحياة سهلة رغدة أو زواج في شبابها مثل قريناتها، ولكن كان نصيبها أن تعيش حياة قاسية مضنية، كتبت لها الأقدار فيها أن يكون عملها هو جر البضائع من مخازنها إلى محال تسويقها على مدار اليوم، وكل يوم، مقابل ما يكفي قوت يومها؛ لتعود إلى منزلها آخر اليوم لتتناول غذاءها وتحصل على قسط من النوم استعداداً ليوم آخر من العمل الشاق، دون شكوى، ودون ملل، ودون يأس، مرفوعة الرأس لا تطلب المساعدة من أحد.
حياة خالية من الحياة، خالية من لحظات المشاعر وأوقات الرفاهية وفراغ النقاشات الجادة والهزلية، حياة لا تبحث عن شيء سوى أن تمر الأيام.
المشهد الأول: التسول المجتمعي
في عالم الفيسبوك الذي لا تعرفه منى، قام أحدهم بالتقاط صورة لها وهي تجر عربتها بجوار أحد المقاهي أثناء عملها اليومي، وقد وجد مصور تلك الصورة أنه قد حصل على كنز سوف يدر عليه الكثير من عُملة هذا العالم ألا وهي "اللايك"، بإجراء مقارنة بسيطة بين ما تقوم به منى من عمل شاق والشباب الجالس لدى المقهى يَخلُص إلى حِفنة من الحِكَم عن ضياع النخوة وكسل الشباب وتوفّر العمل، وانتظار وظيفة الحكومة.. إلخ، بالطبع ملتقط الصورة لم يقف لمساعدة منى، ولا يعمل بعمل مشابه لعملها، وربما كان جالساً لدى نفس المقهى في ذلك الوقت، ولكنه يستخلص الحكمة من أجل النصح لغيره، وبالطبع من أجل جمع "اللايكات".
لاقت الصورة رواجاً هائلاً على السوشيال ميديا على الرغم من فساد المقارنة، فلا أحد يعلم ماذا يعمل هؤلاء الشباب ليكسبوا رزقهم، ولا يعلم أحدهم حجم ما يلاقونه من أحمال بدنية ونفسية قبل وجودهم بالمقهى، كما أنه لا يوجد أحد يساعد الشيَّال أو عامل البناء في هذا المجتمع أو غيره، ولا أخلاق المجتمع تعتبر مساعدته شهامة أو تركه دون مساعدة ظلماً، طالما كانت تلك وسيلة كسب رزقه.
في النهاية حصل ناشر الصورة على نشوته المرجوة بعد الانتشار الواسع للصورة وحجم الإعجاب الضمني الذي لاقته.
المشهد الثاني: التسول الإعلامي
بعد الانتشار الواسع لصورة منى بدر وهي تجر عربتها على السوشيال ميديا، جاء الدور على هذا الإعلامي الشهير ليجمع عدداً كبيراً من المشاهدات؛ إذ حصل على لقاء معها، النجاح الإعلامي لا يكتفي بعُملة اللايك فقط، لكنه يهتم بعُملة المشاهدة التي تعتبر المؤشر الأكبر على الانتشار والأكثر جاذبية للإعلانات، وأصبح السبق هذه الأيام للإعلام الذي يستطيع أن يصنع الحدث أو المشاركة به، وليس فقط أن يسبق بالتغطية والنشر والتحليل.
استغل عمرو أديب انتشاره أفضل استغلال، واستطاع بسرعة تحسب له أن يصل إلى صاحبة الصورة المجهولة، وطرق الحديد وهو ساخن؛ ليجمع قدراً كبيراً من المشاهدة، فمن المعروف أن مثل تلك الصورة لا يزيد عمرها على السوشيال ميديا أكثر من ثلاثة إلى أربعة أيام، يصل خلالها الحديث إلى ذروته، ثم تطفأ نارها سريعاً عند ظهور صورة أخرى أو حدث جديد، لكن عندما يتناولها الإعلام ويصنع من الصورة فيديو، فإنه يطيل من عمرها أياماً أخرى قد تصل إلى أسابيع، وهو ما علمه أديب وسعى إليه؛ ليُحول الحكمة المتداولة مع الصورة إلى شعارات يصيح بها طوال البرنامج عن "البنت اللي بـ100 راجل" و"الشباب العاطل العالة على المجتمع".
المشهد الثالث: التسول السياسي
استثار انتشار صورة منى بدر في أوساط السوشيال ميديا والإعلام اهتمام صانع السياسة وأسال لعابه، ووجد منها مدخلاً إلى استرضاء قطاع واسع من الطبقة المتوسطة ومحدودي الدخل من متابعي السياسة والسوشيال ميديا، التي لا تنتمي إليها بالطبع فئة منى بدر وطبقتها المطحونة التي لا تشغل بالها إلا بقوت يومها، ولا تهتم بالسياسة أو الاقتصاد، ولا بصانعي القرار، وربما لا تعرف اسم الرئيس نفسه.
لا يمكن أن ننكر اللفتة الإنسانية في استقبال الرئيس لتلك الفتاة الفقيرة المكافحة، ولا بد أن نشيد بالمساعدات التي قُدمت لها؛ كي يمكنها أن تعيش حياة آدمية مستقرة كبقية البشر، ولكن لا يمكن أن ننسى أن هذا هو أدنى حقوقها أن تحيا كإنسان، وأن ما عانت منه طوال حياتها هو نتاج للفشل السياسي والاقتصادي لهذه الفئة الحاكمة، وكل من سبقها ممن حكموا هذا البلد الطيب وأساءوا إلى شعبه، وأن أمثالها كثيرون يجوبون الشوارع كل يوم ولم تلتقط لهم صوراً نشرت على الفيسبوك ولم يقابلوا إعلاميين ولم يحظوا بمقابلة رئيس الدولة، وهؤلاء ما زالوا في كفاحهم للبقاء أحياء وتزداد معاناتهم يوماً بعد يوم مع تدهور الحالة الاقتصادية للبلاد بسبب سوء الإدارة وعدم مراعاة أمثال هذا المواطن المعدم.
لقاء الرئيس بمنى بدر بعد إجراءات اقتصادية تعصف بالمواطن الفقير ليس إلا بمثابة صدقة أرسلها رجل أعمال إلى أحد المساهمين في شركته بعد أن أهدر أموالهم وأعلن إفلاسهم؛ ليبدو كنصير للفقراء، ويحصل على دعمهم، في محاولة بائسة للحفاظ على الشركة وموقعه في رئاستها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.