(في إحدى الأسر الفقيرة التي تتكون من خمسة أفراد، أب وأم وولدين وبنت، كان متوسط دخل الأسرة ثلاثة آلاف جنيه، الأب يعمل موظفاً بالمحافظة، وراتبه ألفا جنيه، والأم تعمل خياطة في مصنع ملابس وتتقاضى ألف جنيه.. وتعيش الأسرة بالكاد، واضطر الأب إلى أن يلتحق الابن الأكبر بالتعليم الفني؛ لأنه لا يستطيع أن ينفق عليه في الثانوية العامة وسنوات الجامعة، والبنت في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية التجارية، والولد الآخر في الصف الثالث الإعدادي.
سكن الأسرة كان بعيداً عن مكان عمل الأب الذي يستيقظ يومياً قبل موعد عمله بثلاث ساعات؛ ليستطيع أن يصل لمقر عمله في الموعد ويعود لبيته في المساء بعد ثلاث ساعات أيضاً من انتهاء عمله، ورغم كل هذه المعاناة ومشقة المواصلات العامة، ينفق الأب شهرياً خمسمائة جنيه على تلك المواصلات المرهقة، والأم تنفق مائتي جنيه على المواصلات أيضاً، وبالكاد يعيشون بما تبقى من جنيهات).
في بلد منهك تماماً في كل شيء ويفتقد للحد الأدنى من المعايير، سواء كان في التعليم أو الصحة أو الحالة الاجتماعية، وخرج من ثورة ثار فيها الشعب على كل هذا التردي، من الطبيعي والمنطقي أن يقوم ببناء المنظومة التعليمية والصحية من جديد مستثمراً كل الفرص للنهوض بتلك المنظومتين التي يبنى عليهما أي تقدم اقتصادي، مثلما حدث في جميع الدول التي استطاعت أن تنهض بنفسها من التردي إلى مصاف الدول العظمى؛ حيث كل الأبحاث والتجارب تشير إلى أن التعليم والصحة هي اللبنة الأولى لأي تحول تنموي في أي دولة.
(بعد مناقشات طويلة مع الأسرة قرروا أن يشتري الأب دراجة بخارية بالقسط، وقيمة القسط ستكون سبعمائة جنيه هي قيمة ما ينفقه الأب والأم في المواصلات على أن يصطحب الأب الأم معه في الصباح للعمل ويجلبها معه إلى البيت، ووجدت الأسرة بهذا القرار راحة نفسية وبدنية كبيرة، خاصة أن الأسرة لم تتكبد عناء مالياً إضافياً ومرت الأيام والشهور على هذا الحال).
في الرابع من يونيو/حزيران 2015 صرح "جو كايسر"، الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس إدارة شركة "سيمنس" عن توقيعها لعقود بقيمة 8 مليارات يورو من أجل بناء محطات طاقة كهربائية عالية الكفاءة تعتمد على الغاز الطبيعي إلى جانب محطات تعمل بطاقة الرياح، وهو ما سيؤدي إلى تعزيز قدرات مصر لتوليد الطاقة الكهربائية بأكثر من 40٪، وذلك مقارنة بقاعدة البلاد من القدرات الكهربائية المُثبّتة حالياً على الشبكة.. وستضيف المشروعات الجديدة نحو 16.4 جيجاوات إضافية إلى الشبكة القومية للكهرباء التي تنتج الآن 28 جيجاوات بزيادة 3 جيجا وات عن الاحتياجات الحالية التي تبلغ 25 جيجاوات، وذلك بهدف دعم النمو الاقتصادي للبلاد الذي ينمو بوتيرة سريعة، فضلاً عن تلبية الطلب المتزايد للمواطنين على الطاقة في ظل النمو السكاني، أي أنه من المفترض أن يكون في مصر الفترة القادمة 19 جيجاوات زائدة عن الاستهلاك الحالي.
(من دون أي مقدمات تفاجأت الأم وهي تنتظر الأب يمر عليها في مكان عملها ليصطحبها للبيت بسيارة تقف أمامها وصوت الأب يطلب منها الركوب.. فالأب قرر فجأة أن يستغل عرض أحد البنوك عليه بأن يشتري سيارة بالتقسيط البنكي بضمان الوظيفة بعد أن دفع 30٪ من قيمتها كمقدم لعقد السيارة كانت هي ما ادخره السنة التي خرج فيها إعارة لإحدى الدول الخليجية قبل خمسة أعوام، وقرر أن يسدد كل شهر ألفاً وخمسمائة جنيه هي نصف دخل الأسرة الشهري، وقرر أن تعيش الأسرة بما تبقى.. هذا فقط لأنه شعر أن هذا العرض فرصة جيدة يتمناها أي موظف.. وعندما حاولت الأسرة الاعتراض على هذا القرار، كان الأب حازماً برد قوي، وهو أنه رب الأسرة والآمر الناهي فيها، ولن يسمح لأحد بمناقشته).
في 19 مايو 2016 وافق رئيس الجمهورية على اتفاقية قرض بقيمة 25 مليار دولار من الحكومة الروسية لتمويل المشروع النووي، ونقلت الجريدة الرسمية أن روسيا ستقدم قرض تصدير حكومياً لصالح مصر بقيمة 25 مليار دولار من أجل تمويل الأعمال والخدمات الخاصة بمعدات الإنشاء والتشغيل، والوحدات الخاصة بمحطة الطاقة النووية المصرية.. ويستخدم القرض لتمويل 85٪ من قيمة كل عقد لصالح تنفيذ الأعمال والخدمات والشحنات بالمعدات الخاصة بالمشروع، على أن يسدد الجانب المصري القيمة المتبقية من التمويل البالغة 15٪ في أقساط، إما بالدولار أو بالجنيه، لصالح المؤسسات الروسية المفوضة بما يتوافق مع العقود في صورة دفعة سداد مقدمة أو أية مدفوعات بعد تنفيذ الأعمال والخدمات وتسليم التوريدات.. ويبلغ أجل القرض 13 عاماً خلال المدة الزمنية من 2016 وحتى 2018 بفائدة 3٪ سنوياً.. والتي من خلالها تستطيع المحطة توليد كهرباء قدرها 4.8 جيجاوات.
(الابن الذي سيتخرج من المرحلة الإعدادية بعد شهرين، وهو دائماً متفوق دراسياً يريد أن يصبح طبيباً، ولكن الأب ليس لديه القدرة المالية على الإنفاق الدراسي في الثانوية العامة والجامعة، والبنت على وشك التخرج من الدراسة ومن ثم فهي على وشك الزواج، والأب بدلاً من أن يفكر في التضحية أكثر بسبب التفوق الدراسي لابنه تارة وسترة البنت تارة أخرى.. أنفق القليل الذي ادخره كدفعة مقدمة لسيارة ليس في حاجة ماسة لها، وأيضاً اقتطع نصف الدخل الشهري الذي لا يكفي لدفع أقساط السيارة.. بداعي أنه هو رب البيت والآمر الناهي في مستقبل الأسرة البائسة).
في دولة تنفق على الصحة 54 مليار جنيه بنسبة 5.4٪ من الإنفاق السنوي، وعلى التعليم 94 مليار جنيه بنسبة 12٪ يقوم رئيس الجمهورية وحده باتخاذ قرار منفرد باقتراض 25 مليار دولار بنسبة فائدة 3٪ على ثلاثة عشر عاماً، أي يصبح الإجمالي 35 مليار دولار، وهو ما يوازي في الوقت الحالي 385 مليار جنيه مصري، أي 36٪ من الإنفاق السنوي على جميع القطاعات في مصر، الذي يقدر بـ930 مليار جنيه ، وهذا فقط من أجل 4.8 جيجاوات من الكهرباء التي لا تحتاجها مصر الآن وليست من الضرورات الملحة، ولست بحاجة هنا لأشير إلى مدى تردي منظومتي التعليم والصحة في مصر، اللتين من المفترض وإن كان هناك اقتراض يجب أن يوجه لهاتين المنظومتين.. بدلاً من الإنفاق العبثي يومياً في مشروعات لا جدوى منها لم يكن آخرها التفريعة الجديدة لقناة السويس التي لم أجد أي نفع منها على مصر.
الحقيقة المريبة الآن هي أني لم أجد رئيس دولة منتخباً في أي مكان بالعالم اتخذ قراراً باقتراض مبلغ يساوي ثلث الموازنة العامة لدولته بقرار فردي في وجود مؤسسة تشريعية.. ويتفاجأ الجميع بين عشية وضحاها بقرار كهذا.. وكأن مستقبل مصر أصبح وجهة نظر لرجل واحد أوحد يعبث به كيفما يشاء!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.