وكما أن الدين كان دائماً ثورةً على أفكار وقيم وأوضاع فاسدة، وتغييراً راديكالياً لقواعد كلاسيكية مستقرة، فبمرور الوقت أمكن الالتفاف والتحايل ومن خلال بعض رجالاته حول فكرة التغيير، ثم توظيفه كمخدّر للتغييب.
قراءة في كتاب الدكتور شحاتة صيام "الدين الشعبي في مصر.. نقد العقل المتحايل، من التصوف إلى السحر"، الصادر عن دار رؤية للنشر بالقاهرة.
بداية يمكن القول إن الإسلام بمعتقداته الأساسية يتشظى إلى مجموعة من المدارس والطرائق الروحية مثل السّنة والشيعة والخوارج، تلك التي جاءت نتيجة للصراعات السياسية والاجتماعية والدينية.
وإن الانقسامات التي عرفها الإسلام من خلال التصوّف جعله ينقسم إلى نوعين:
– التصوف النظري الذي يقوم على التأمل والتفلسف وصياغة أفكار وافدة عليه.
– النوع الآخر، يطلق عليه التصوف العملي أو الممارس، الذي يقوم على الرياضات والمجاهدات وأخذ النفس بالزهد والانقطاع للعبادة.
وتطرح الظاهرة الدينية نفسها بإلحاح شديد على مسرح الأحداث التي يشهدها المجتمع المصري في الآونة الأخيرة، ليس باعتبارها شكلاً من أشكال الحركة النضالية، وتعبيراً عن جماعات نائبة معينة، لكن بحسبانها نشاطاً فكرياً يظلل أركان الوجود، وتفرض ذاتيتها على كل نشاط أو فعل أو تأمل.
بيد أن طغيان الظاهرة الدينية يتضح بجلاء في مجموعة الأفعال والممارسات الاجتماعية، إلا أنها تعد من أقل الموضوعات التي تحظى بالبحث والدراسة والتفسير الموضوعي، اللهم إلا في إطار الاحتفاليات الدعائية التي تأتي دوماً لصد حالات النقد التي توجه إلى النظام الاجتماعي الاقتصادي القائم، بهدف تدعيمه وتأبيده.
إن صعوبة طرح موضوعات الدين على بساط البحث والدراسة تأتي من خلال تضخيم الظاهرة وتغليفها بسياج من محرمات، الأمر الذي يخلعها من إطار تطوير تفسيرات ورؤى جديدة تلتصق بها بشكل وشيج.
في كتابه "الدين الشعبي في مصر.. من التصوف إلى السحر" الصادر عن دار رؤية للنشر بالقاهرة، يؤكد الدكتور شحاتة صيام أن الدين الشعبي يعتبر أداة من أدوات العوام وغيرهم لحل مشكلاتهم بطريقة ذاتية، وأن الدين الشعبي جاء كرد فعل للتعامل مع المشكلات الصعبة التي تقف حائلاً أمام إشباع الاحتياجات الاجتماعية، كنوع من الهروب إلى الدين باعتباره ملاذاً نتيجة لعدم تحقيق الاحتياجات الاجتماعية.
وينقسم الكتاب إلى خمسة فصول بدأها:
بالتصوف: الأصل والمفهوم والنظرية، ثم نشأة التصوف في مصر: التاريخ والتطور، وفي الفصل الثالث تحدث عن ممارسات الدين الشعبي: التأييد والتفنيد، وفي الرابع أزمة الخطاب الصوفي.. الخروج عن النص.
وختم كتابه بفصل عن السحر والتصوف.. الممارسة العملية، عن أصل التصوف، ويشير إلى أن "الصوفية" ككلمة تعود إلى اليونانية صوفيا التي تعني الحكمة، وأن هناك صلة قوية بين كلمة صوفي وصوفيا التي أطلقها اليونانيون على بعض حكماء الهند القدماء الذين تميزوا بحياة التأمل والعبادة، ومنذ زمن ليس بقريب.
معنى الصوفية:
تعني كلمة صوفي، الزهد في الدنيا والإعراض عن أسباب زينة ومظاهرها الحياة، وحريٌّ بنا أن نوضح أن هناك رفضاً من جانب بعض المتصوفة لهذا الوصف؛ لأن الحكيم في الواقع هو في مقام أدنى في مقامات الانتماء في طريق التصوف، وهناك من يرى أيضاً بعيداً عن قواعد اللغة والاشتقاق أن الصوفية تعود إلى الصلاة في الصف الأول، وهناك من يرجعها إلى قبيلة بني صوفة، تلك القبيلة البدوية التي كانت تعيش حول البيت في الجاهلية، وتنسب إلى رجل يدعي الغوث بن مر، الذي كانت أمه قد نذرته للكعبة لو لم يمت مثل بقية إخوته، وعلقت في رأسه صوفة، والتي ظلت عالقة به فيما بعد، حتى أطلق عليه صوفة نسبة إليها، وهناك من ينسبها إلى قبيلة عربية عرفت بالاستغراق والمحبة وطاعة الله، "وهم قوم كانوا في الجاهلية انقطعوا إلى الله وقطنوا الكعبة، فمن تشبّه بهم فهم الصوفة أو الصوفانة".
وثمة رؤية أخرى ترى أن تعريف الصوفية أخذ من صوفة القفا، وهي الشعيرات التي تنبت من مؤخرة الرأس، أو أن المتصوف معطوف به الحق منصرف عن الخلق.
أو بمعنى آخر، أن الصوفي ينصرف عن الخلق إلى الحق.. طوائف وملل ونِحَل في الفصل الثاني حول نشأة التصوف في مصر.
تعدّد التأويل
يؤكد د. شحاتة أن تعدد الطوائف والطرق والملل والنِّحل خلق تعدداً مماثلاً في تأويل الدين وفقاً للمنابع الأيديولوجية لكل شيخ من شيوخها، الأمر الذي أوجد لكل شيخ طريقته ومنهجه، سواء في القيادة أو في مظاهر الوعي الديني التي تتمثل بشكل سافر في ممارسة الطقوس والشعائر.
ويشير إلى أن ثمة اختلافاً بين الطوائف أو الطرق، سواء في الممارسات أو حتى في التسمية التي كانت تأتي وفق اسم الشيخ، فالطريقة المحاسبية تنسب إلى الحارث بن أسد الحاسبي، والبسطامية نسبة إلى أبي يزيد البسطامي، والقصارية إلى حمدون القصاري شيخ الملامتية، والجندية نسبة إلى أبي محمد الجنيد، والنورية نسبة إلى الحسين النوري، والعزمية نسبة إلى الشيخ أحمد ماضي أبو العزايم، والبرهانية نسبة إلى الشيخ محمد عبده عثمان البرهاني، وغيرها.
والواقع أن نشأة الطرق على يد هؤلاء الشيوخ، أفرغت نوعاً من الاستسلام لبعض الأتباع أو التلاميذ الذين كوَّنوا جماعات صغيرة تلتف حول الشيوخ وكبار النساك والأولياء، تلك التي أسهمت فيما يعرف بنظام الإخوان في الإسلام، ومن ثم نشأت الزوايا والخوانق منذ نهاية القرن الثاني الهجري.
كما أن طرق التصوف وفقاً لذلك يمكن أن تكون ظاهرة اجتماعية أكثر من كونها ظاهرة دينية، لكن وفقاً لتصوراتهم، فإن كانت هذه الطرق هي الوسيلة إلى الله، فإن هذا الطريق يحتاج إلى مرشد أو شيخ، من لا شيخ له فالشيطان شيخه، ذلك الذي يعد وسيطاً بين الله وعباده، إن الوساطة بين الله وعباده من خلال الشيوخ خلق لهم سلطة ونفوذاً كبيرين، ذلك الأمر يتنافى مع تعاليم الإسلام.
إنهم في ذلك وفقاً لذلك يحاكون سلطة الرؤساء في الديانة المسيحية التي ذكّرنا بها إنجيل متى (16 – 19)؛ حيث يقول: أعطيتك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات.
تناول د. شحاتة – في الفصل الثالث من كتابه "الدين الشعبي" ممارسات الدين الشعبي بين التأييد والتفنيد، مستنداً إلى عشر حالات تنتمي للطرق الصوفية ذات الممارسات الفارقة، التي لها أفكار وطقوس خاصة.
أزمة الخطاب الصوفي:
ويأتي الفصل الرابع في كتاب "الدين الشعبي في مصر من التصوف إلى السحر"؛ ليناقش أزمة الخطاب الصوفي متناولاً إحدى الوثائق التي تعبر عن وجهات نظر، أو قل خطاب إحدى الطرق الصوفية المتخارجة عن التنظيم الصوفي، سواء من حيث الفكر أو الممارسة.
إن دراسة الخطاب الصوفي بوصفه وحدة نصية، يعني أننا نقف موقفاً ناقداً له على مستوى الوعي والأفكار المتضمنة التي يتم تفعيلها في الواقع المعايش، أي أننا هنا نبتعد كل البعد عن الممارسات التي قد تدخل في باب التشهير بها، لا في باب العلم.
ويختتم د. شحاتة صيام كتابه بفصل يتحدث عن السحر والتصوف، مؤكداً أنهما لا يفترقان، فالسحر باعتباره خرقاً للعادة، وأن الكرامة لدى الصوفية خروج عن المألوف، فإن الاستمرار في الرياضة التي توصلها إلى ما يسمى بالحلول والاتحاد، وتجعل الخوارق هي الكرامات والسحر، ويكون استخدام الطلسمات من الأوفاق والدخنة والعزائم الجزء المتمم لهما.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.