كانت السماء مُلبَّدةٌ بغيوم كثيفة، إيذاناً بهطول أمطار غزيرة في مدينة تولوكا، تلك المدينة المكسيكية الباردة. وعلى خط السكة الحديدية، كان رجلٌ يطلب المساعدة من راكبي السيارات. وفي الجوار، يمكن رؤية مجموعةٍ من الناس: أسرتين، إحداهما من غواتيمالا والأخرى من هندوراس، تقطعان أرض المكسيك على متن قطار الموت المسمَّى بـ"الوحش"، قاصدتين حدود الولايات المتحدة الأميركية.
يتوجَّه ما بين 400 ألف و500 ألف شخصٍ، معظمهم من السلفادور، وهندوراس، ونيكاراغوا، وغواتيمالا، والمكسيك، إلى الولايات المتحدة الأميركية على متن "الوحش" أو "قطار الموت".
واختار هؤلاء مغادرة بلادهم لشح فرص العمل وفرص تعليم أطفالهم بسبب الفقر، والمشكلات السياسية والاقتصادية. إنهم يحاولون الفرار من حياةٍ صعبة جداً يسودها العنف.
صعد شبابٌ ونساء وأسر كاملة على متن القطار، سعياً إلى حياةٍ أفضل في الولايات المتحدة، ولتحقيق ذلك، يضطرون للسفر عبر المكسيك بطريقةٍ غير شرعية، بعد دفع ما يملكون من مال قليلٍ في سبيل الهجرة، لكنَّ ركوب هذا القطار قد يُكلِّفهم ما هو أكثر من المال؛ إذ يواجهون خطر الموت في ظروفٍ مروِّعة.
لماذا سُمي الوحش؟
أطلق على هذا القطار لقب "الوحش"، لأن المهاجرين يواجهون على متنه العديد من الأخطار، إذ يركبون على سطح القطار وليس بداخله، وبالتالي، فعملية الركوب على سطح القطار أثناء تحركه تحمل خطراً كبيراً في حد ذاتها، لأنَّهم يضطرون لتكرار الفعلة نفسها من 10 مراتٍ إلى 15 مرةً في أثناء رحلةٍ تبلغ مسافتها 1450 ميلاً (2350 كيلومتراً تقريباً).
وتبدأ الرحلة من ولايتي تشياباس أو تاباسكو، الواقعتين في جنوبي المكسيك، ويمر القطار بالعديد من المدن والبلدات حتى يبلغ مكسيكو سيتي، حيث توجد العديد من الطرق إلى حدود الولايات المتحدة.
ومن الأخطار التي تُهدد حياة الركاب احتمالية سقوطهم من على سطح القطار في أثناء سيره بسرعةٍ عالية بسبب سهوهم أو لأنَّ التعب ينال منهم فينامون لبرهةٍ من الزمن، ويمكن أن يتعرضوا حينئذٍ لبتر أحد أطرافهم أو قطع رأسهم، وفي حقيقة الأمر، قد تُدهَس أجسادهم تماماً تحت عجلات القطار نتيجةً لسقوطهم.
وبالإضافة لذلك فقد يواجهون خطراً آخر يهددهم، وهو العنف على متن القطار، إذ إنَّ هناك بعض الشباب المنتمين إلى عصاباتٍ على متن القطار، فيعتدون على الركاب ويبرحونهم ضرباً، وقد يعاني بعض النساء والأطفال عنفاً جنسياً. ومن أشهر العصابات في هذه المنطقة عصابة "مارا سالفاتروتشا" من دولة السلفادور، ولكنَّ أفرادها يحملون جنسياتٍ متعددة.
تُعَد ظروف الرحلة بائسة، ويعاني الركاب حالات اكتئابٍ شديدة، واضطراباتٍ نفسية، ونوبات ذُعر، بسبب الأهوال المحيطة بهم، المتمثلة في العنف، وسوء الطقس، والجوع، وما خفي كان أعظم.
لماذا يخاطرون بحياتهم لخوض هذه الرحلة؟
ومن الأهمية بمكانٍ محاولة فهم سوء الأحوال المعيشية لهؤلاء المهاجرين في بلادهم، التي تدفعهم لاتخاذ تلك القرارات الصعبة، ومواجهة كل هذه المخاطر، التي قد تصل إلى الموت، لملاحقة الحلم الأميركي، والقيام بهذه الرحلة في ظروفٍ قاسية.
ويمكن تقسيم هذه الرحلة إلى ثلاث مراحل، الأولى هي الذهاب إلى حدود المكسيك وغواتيمالا، والسفر عبر ولايتي تشياباس، أو تاباسكو، الواقعتين في جنوبي المكسيك، حيث يبدأ قطار "الوحش" رحلته القاتلة. ويعبر الكثير من الأشخاص الحدود بين الغابة والتلال والجبال سيراً على الأقدام، في ظروفٍ جوية قاسية كذلك، غير مُزوَّدين سوى بالقليل من الطعام والشراب. وتتمثل المرحلة الثانية في عبور المكسيك على سطح قطار الوحش بكل ما تحمله من مخاطر.
أمَّا المرحلة الثالثة فهي الوصول إلى حدود الولايات المتحدة، ومحاولة عبورها دون جواز سفر، ويتمثل أحد مخاطر هذه المرحلة في وقوع المهاجرين فريسةً لأشخاصٍ يأخذون منهم الكثير من المال، على وعدٍ بمساعدتهم في دخول البلاد دون أي ضمانةٍ من ضمانات النجاح في تحقيق ذلك الوعد، ويكمن خطرٌ آخر في شرطة الحدود، التي قد تُطلق النار على المهاجرين فتُرديهم قتلى، فضلاً عن خطرٍ آخر يتمثل في احتمالية موتهم في الصحراء القاحلة بين المكسيك والولايات المتحدة.
قصة أسرتين
وتُعَد قصة هاتين الأسرتين مجرد مثالٍ على آلافٍ مؤلَّفة من الأشخاص الذين يقررون مواجهة كل هذه الأهوال في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر. بدأ إلمر، وهو شابٌ من هندوراس، وجسده مليءٌ بالوشوم، وتتدلى من رقبته مسبحةٌ بها صليب، يتحدث بلغةٍ إسبانية تشوبها لكنةٌ خاصة بسكان الجنوب قائلاً: "نقرر مغادرة بلادنا لأننا نعاني فيها معاناةً كبيرة، لدرجة أنَّ الشباب ينتحرون، ويسرقون غيرهم لعدم توفُّر وظائف، ونسأل الله أن يساعدنا على الذهاب في هذه الرحلة لأنَّ بلادنا أشبه بـ"قنبلةٍ موقوتة"، ولا نعرف موعد موتنا كضحايا على أيدي هذه العصابات.
ويضيف: "كنا نتوقع من الناس أن يتفهموا وضعنا وأسباب خروجنا من بلادنا، فالشباب في هندوراس لا يرغبون في الدراسة، ويُفضِّلون الانضمام إلى إحدى العصابات، ويريدون قتل الآخرين. لا نريد أن يحيا أطفالنا حياةً كهذه، ولذلك نقرر المغادرة".
قررت الأسرتان المكوث في مدينة تولوكا، التي تتسم بطقسٍ بارد ومطير، لمدةٍ قصيرة، إذ يجب عليهم الانتظار حتى انتهاء موسم الأمطار. لقد أكملتا نصف الرحلة بالفعل، وقال إنريكي، وهو شابٌ من غواتيمالا وأبٌ لطفلٍ عمره عام واحد، وطفلةٍ عمرها ثلاثة أعوام: "نعرف بعضنا البعض هنا في تولوكا، حيث صرنا رفاقاً". وفي البداية، كان لكلٍّ من الأسرتين مسار مختلف، فالأسرة الغواتيمالية استقلت القطار الأول في ولاية تشياباس، وعبرت حدود المكسيك سيراً على الأقدام بين الجبال، وتعرضت لاعتداءٍ على متن القطار من أفراد عصابة "مارا سالفاتروتشا"، الذين سرقوا جميع أموالها. أمَّا الأسرة الهندوراسية، فقد عبرت حدود المكسيك سيراً على الأقدام أيضاً من ولاية تاباسكو، حيث استقلت أول قطار.
موت عمه لم يجعله يتراجع؟
وتُعد هذه هي المرة الثانية التي يذهب فيها إنريكي، من غواتيمالا، في رحلةٍ كهذه، ففي المرة الأولى، سافر إنريكي وحده على متن قطار "الوحش"، وقد فعلها، ونجح في بلوغ حدود الولايات المتحدة، ثم أراد السباحة عبر نهر"ريو برافو"، ولكنه لم يتمكن من ذلك، إذ ألقت الشرطة القبض عليه، وأعادته إلى غواتيمالا. وفي هذه المرة، قرر اصطحاب زوجته، وطفله، وطفلته معه. واتصل إنريكي بعائلته في غواتيمالا مؤخراً وقال: "لقد أخبروني أنَّه منذ أسبوعٍ، تمكَّن أحد أعمامي من السباحة عبر النهر، ولكنَّ الشرطة أطلقت عليه النار من مسافةٍ بعيدة، فلقي حتفه، ثم أُعيدت جثته إلى غواتيمالا حيث دفنته عائلتي".
وأضاف إنريكي: "نعاني هنا في المكسيك بسبب مؤسسة Desarrollo Integral de La Familia أو "التنمية الأسرية المتكاملة"، لأنها تريد أخذ أطفالنا منَّا ظناً منها أننا نعرضهم للمعاناة في هذه الرحلة، نعم، ربما يعاني أطفالنا، ولكن جميعنا نعاني، وإذا كنَّا نفعل ذلك، فإننا نفعله لتوفير حياةٍ أفضل لأطفالنا، ومنحهم فرصاً أفضل، نخوض هذه الرحلة لأجلهم".
جديرٌ بالذكر أنَّ مؤسسة التنمية الأسرية المتكاملة هي مؤسسة حكومية تهدف إلى رعاية الأسر ذات الاحتياجات، والنساء اللواتي يعشن في عنفٍ وفقر، وأطفال الشوارع، والأطفال المقهورين، ويقول إنريكي عنها: "تعرضنا للاضطهاد مرتين من أفرادٍ تابعين لمؤسسة التنمية الأسرية المتكاملة، ولكننا استطعنا الفرار منهم".
وقال إلمر، من هندوراس: "قد نمكث هنا في تولوكا لأسبوع، هذه العربات بمثابة بيتنا، ونحاول فيها قضاء الليالي الباردة هكذا، تكسونا ملابس رقيقة وليس ثمة أغطيةٌ نلتحف بها. من الصعب قضاء الليل هنا لأنَّه قارس البرودة، كانت لدينا متعلقاتٌ في بعض الأحيان، ولكننا فقدناها، قد تسرق العصابات متعلقاتنا، أو نضطر لتركها في القطار، لأننا لا نستطيع اصطحاب كل المتعلقات عند مغادرة القطار، ثم يواصل القطار رحلته".
وقال إنريكي: "أريد الحصول على وظيفةٍ هنا في المكسيك، مجرد وظيفة مؤقتة، لأنني أريد دفع ثمن قضاء أسرتي ليلة واحدة في أحد الفنادق، أو ربما يمكننا الذهاب إلى ملجأ، وقد نتمكن حينئذٍ من النوم على فراشٍ ولو لليلة واحدة، والاستحمام، والحصول على قسطٍ مناسبٍ من الراحة مع زوجتي وطفلي وطفلتي ولو لليلة واحدة، ولكنني لا أستطيع الحصول على وظيفة، فالناس لا يثقون بي، ويظنون أنني سأرتكب أفعالاً سيئة، ولكنني لا أريد سوى الحصول على بعض المال لأنني أحتاج إلى شراء حفاضاتٍ وحليب لطفلي".
صراخ الطفلة
وفجأة، في أثناء الحوار الصحفي، بدأ القطار في التحرك، فصرخت الفتاة الصغيرة أليخاندرا، وبدأت في البكاء مع ارتسام علامات الذعر على وجهها، إذ لم تُرد الذهاب على متن هذا القطار، وبدأت تصرخ بصوتٍ عالٍ قائلةً: "لا"، وتعابير الألم بادية في عينيها. وقالت لها أمها وهي تحاول تهدئتها: "لا يا ألي (تقصد أليخاندرا)، لن نذهب على متن هذا القطار، لا تقلقي، عليكِ أن تقولي وداعاً لهذا القطار، فلن نصعد إليه، قولي وداعاً"، وحينئذٍ، توقفت الفتاة الصغيرة، البالغة من العمر 3 أعوام، عن الصراخ، ولكنها ظلت تبكي، ولوَّحت بيدها الصغيرة لـ"الوحش" قائلةً: "وداعاً".
واجهت هاتان الأسرتان كل هذه المخاطر، بما فيها خطر الموت الأكبر، لبلوغ الحلم الأميركي، والله وحده يعلم هل سيتمكنون من تحقيق هدفهم أم لا، وإذا ما كانوا سيلقون حتفهم في هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر. لكنهم اتخذوا هذا القرار ليتركوا وراء ظهورهم حياةً عديمة الفرص، مواجهين كل هذه المخاطر سعياً لحياةٍ أفضل لهم ولأسرهم.
وحين صار ظلام السماء أحلك، وبدأت الأمطار تهطل في مدينة تولوكا، هذه المدينة المرتفعة والباردة، أخذت الأسرتان متعلقاتهما القليلة، والطعام الذي جمعاه من أهل المدينة، وذهبوا للبحث عن مكانٍ يقضون فيه ليلتهما.
الأسماء
الأسرة الغواتيمالية
إنريكي، الزوج (20 عاماً)
ساندرا، الزوجة (20 عاماً)
إنريكي، الابن (عام واحد)
أليخاندرا، الابنة (3 أعوام)
الأسرة الهندوراسية
روبرتو، الزوج، الرجل الذي كان يطلب المساعدة على الطريق
ماريلو، الزوجة
لوفيا، الابنة (9 أعوام)
فيكتوريا، الابنة الثانية (عامان)
إلمير، شقيق الزوجة