إذا الشعب يوماً أراد.. الوفاة!

الاستبداد والفساد الذي استشرى في عروق دولنا العربية، والذي مكَّن قوى سياسية وأنظمة حكم في الخمسين سنة السابقة، وأصحاب مصالح كبرى، من تقسيم الشعوب إلى نصفين أو طبقتين؛ الطبقة الأولى المهيمنة والغنية التي تتحكم في دواليب الاقتصاد والسياسة والإعلام، لها من القوة ما يجعلها تحتكر خيرات الأمة وتسيطر عليها لسنين طويلة

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/02 الساعة 05:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/02 الساعة 05:32 بتوقيت غرينتش

الساعة تشير إلى الواحدة والنصف بعد الزوال، أهرول نحو الشارع العمومي أستنجد بأول سيارة أجرة لتقلّني إلى أحد الأحياء بالعاصمة المغربية الرباط؛ لكي أجري لقاء مع بعض الشباب في مؤسسة عمومية.. فإذا بي أسمع صوتاً ينادي: يا ابني.. يا ابني.. من فضلك دقيقة.. أجبتها: نعم سيدتي، أنا في الخدمة، وأنا أنظر إلى ساعتي اليدوية التي تعلمني بأنني متأخر قليلاً عن الموعد.

احتضنت السيدة يدي، وسألتني إن كان لدي من مال لأساعدها على نفقة بيتها، وزوجها الشيخ المريض المستلقي في البيت.. وهي تحمل بضعة مناديل تحاول أن تقنع المارين باقتنائها.. على الأقل لتحفظ ماء وجهها من السؤال، لبَّيت طلبها وسألتها الدعاء، فتسرب إلى مسمعي أنها قالت: "الله يعينك يا ابني، والله يعطينا شي موتة مستورة.. أما الحياة راه قهرتنا".

ظلت تلك الكلمات ترافقني إلى آخر اليوم، وأنا أحاول تحليل الحوار الصغير الذي دار بيننا، وأقنع نفسي أنها لا تريد الوفاة فعلاً، ولا تسأل الله الموت، لكنها بفعل الفقر والتهميش الذي طالها، تعبت نفسيتها، ولم تجد مَن يحتضنها فتحولت كل آمالها إلى آلام، هي ترفض أن تنهي حياتها بيديها خوفاً من خالقها، لكنها في نفس الوقت تطلب لقاءه أملاً في حياة أخرى.

الاستبداد والفساد الذي استشرى في عروق دولنا العربية، والذي مكَّن قوى سياسية وأنظمة حكم في الخمسين سنة السابقة، وأصحاب مصالح كبرى، من تقسيم الشعوب إلى نصفين أو طبقتين؛ الطبقة الأولى المهيمنة والغنية التي تتحكم في دواليب الاقتصاد والسياسة والإعلام، لها من القوة ما يجعلها تحتكر خيرات الأمة وتسيطر عليها لسنين طويلة.

الطبقة الثانية المتوسطة أو الضعيفة، التي أثقلت كاهلها الحياة، فلم تعد تهتم لا بفكر ولا علم ولا إنتاج، لكنها تحاول أن تقتات على ما تبقى من الطبقة الأولى، وتعيش وفق المنظومة الحالية داخل مجتمعات تتقيد بالاستهلاك، ثم الاستهلاك.. فتصنع الطبقة الأولى المنتوجات، وتبيعها للطبقة الثانية، وحينما أقول منتوجات فليست الأساسية منها فقط، لكن لها القدرة على أن تصنع لك اهتمامات أخرى، جانبية، وتسوقها على أنها أساسية، فيغرق الصانع في غنى أكثر، ويغرق الفقير في استهلاك أكثر.

استبداد حكام وأنظمة وقوى سياسية بالشعوب واستفرادهم بالحكم وتحكمهم في رقاب المواطنين والاستئثار بخيرات المجتمع دون اهتمام بحقوق المواطن وأمنهم الاجتماعي، وأمرهم وحثهم على إبعاد المواطنين والفاعلين عن المشاركة في الحكم وفي السياسة، وخلقهم لجو أبرز سماته عدم الثقة بين الحاكم والمحكوم، السياسي والمواطن، المتحزب واللامتحزب، المنخرط واللامنخرط.. هذا ما جعل المواطن ينسحب إلى السلبية ويفقد انتماءه ويصبح غير قادر على العطاء والإبداع، ومن ثم يحرم المجتمع من قدرات أبنائه اللازمة لبناء الدولة وتقدمها، وعيشها بكرامة وعدالة اجتماعية، فذلك الإحساس بالاستبداد يولد لدى المواطنين عدم الإيمان بأحلامهم وطموحاتهم، ثم تختفي كل محاولات الرقي بالمجتمع.

قرأت يوماً لصلاح الدين حافظ قولاً، أن أكثر دول العالم تقدماً وليبرالية وحرية رأسمالية، مثل أميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، وأشدها رفاهيةً وارتفاعاً في مستوى المعيشة، مثل اليابان والدول الاسكندنافية، هي الدول التي وفرت لشعوبها أفضل شبكة للأمان الاجتماعي.. من دون أن تترك الكبير يلتهم الصغير، والغني يقهر الفقير، وأسماك القرش الجارحة الجانحة، تدمر المجتمع بتوازناته المختلفة؛ لكي تلتهم ضحية صغيرة، والضحايا عندنا بالملايين!

كلما استحضرت حديثي معها وسألت نفسي في خضم كل ما نعيشه، والذي قدمته سابقاً، هل هذا ينفي مسؤوليتي عما يحصل لها؟ كل مرة كنت أجد أن الإجابة هي لا.. أنا مسؤول، وكلنا مسؤولون.. ربما عبر العمل التطوعي، ربما عبر مقاولات اجتماعية، ربما عبر التفكير في حلول بديلة، لكن يبقى المشكل أعمق من ذلك ومرتبطاً بإرادة سياسة، والعودة إلى الاهتمام بالسياسة ورجوعها إلى المشهد اليومي للمواطن بالعالم العربي عموماً، والمغرب بالخصوص، وفي كتاب ثورات القوة الناعمة في العالم العربي لمؤلفه علي حرب،

يقول إن ما يشهده العالم العربيّ هو انتفاضات متعدّدة الأبعاد، إنّها انتفاضاتٌ مدنيّة وسياسيّة واقتصاديّة، بقدْر ما هي تقنية وعقليّة وخلقيّة، وهي إلى ذلك عالميّة بقدر ما هي عربيّة، إنّها ثورات فكريّة تجسّد نموذجاً جديداً تتغيّر معه علاقة الإنسان بمفردات وجوده، بالزّمان والمكان والإمكان، كما بالواقع والعالم والآخر، فهي أتت من فتح كونيّ جسّدته ثورة الأرقام والمعلومات التي خلقت أمام الأجيال العربيّة الجديدة إمكانات هائلة للتّفكير والعمل على تغيير الواقع، بتفكيك الأنظمة الدّيكتاتوريّة وخلخلة المنظومات الأصوليّة.

هذه المحاولات التي يشهدها العالم العربي ربما ستؤدي إلى إيجاد بعض الحلول لهذه السيدة وأمثالها، فالاستبداد والفساد اللذان صنعا شبكات داخل المجتمعات يحتاجان قوى حية، تتصدى لهما وتحاربهما، وتحاول ما أمكن أن تنقذ الشعوب من أن يهتفوا هذه المرة، في ثوراتهم القادمة: إذا الشعب يوما أراد.. الوفاة! أتمنى ألا يستجيب القدر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد