أطالت النظر في المرآة.. أتكون هي حقاً هذه المرأة التي تشاهدها أمامها؟ منذ فترة طويلة لم ترَ انعكاس صورتها في المرآة.. هل تغيرت حقاً لتبدو هكذا أم أن ضوء المصباح الباهت هو الذي شوه صورتها لضعفه وقلة حيلته في تبديد الظلام المفروض عليه، وعلى هذه المسكينة؟ أهو الزمن قد حاك مؤامراته ضدها وانقلب عليها؟ أم أن قِدم المرآة هو السبب؟ أيمكن أن تكون تلك الأسباب قد اجتمعت معاً وتآزرت عليها؟ كيف لا وكلمات الجارة العجوز لا تزال تتردد في ذهنها: اعلمي أن الحزن وانتظار السراب سيكون مصير صغيرتك هذه.. هذا ما تخبرني به كفها.
– اتقي الله يا امرأة، أأنت تعلمين الغيب لتقولي هذا؟
مررت يديها بين خصلات شعرها التي غدت رقيقة واستحال لونها فضياً لامعاً.. وضعت يدها على وجنتها الذابلة.. وأخذت تمر بإصبعها فوق التجاعيد التي شكلت أخاديد عميقة على جبهتها وحول فمها وأسفل عينيها وكأنها ترسم فيها خريطة تضم دولاً وحدوداً.
سقطت دمعات من مقلتيها.. ما هذا؟ أشاهد جديد على ضعفي؟ أم أنه عبرات حزن لفراق عمري الذي مضى في سبيله وأنا أجلس هنا وحيدة أنتظر حبيباً غدا كسراب تلاشى لا أعلم عنه شيئاً؟ رفيق دربٍ لا أدري إن كان في مكان ما حياً يرزق على هذه البسيطة أم أنه فارق الحياة منذ زمن.. ليتني أعرف عن مصيره شيئاً! ليت قلبي يطمئن عليه.. يا رب ارحم معذبة أعياها الشوق وقضت مضاجعها المخاوف والأحزان!.
تراءى لها وجهه مقبلاً في المرآة القديمة.. أهو شبح ظهر فجأة؟ أم أنه خيالها الذي أعياه طول الانتظار؟ كتمت أنفاسها التي تعالى لهاثها فجأة.. استدارت ناحيته وحدقت في عينيه بقوة.. تريد إفراغ أشواقها السجينة بسرعة قبل أن يتلاشى كما يفعل دائماً.. أرجوك.. ابقَ معي قليلاً.. سئمت طول الانتظار، اشتقت إليك، لماذا لا تنتظر قليلاً.
اقترب هذه المرة منها.. لم يختفِ كعادته، ضمها إليه.. أحست بالدفء يسري في عروقها.. سمعت نبضات قلبه.. دققت السمع.. أجل إنه هو، ها قد عاد فعلاً، إنه نبض قلبه الحاني الذي تتعطش للإصغاء لهمسه.. مرر يده على رأسها، قبَّله.. وبقي غارقاً في صمته.
– لماذا غبتَ عني طوال هذه السنوات؟ أين كنتَ؟ لماذا لم تخبرني أنك بخير؟ لماذا لم تطمئن قلبي المعذب؟ لماذا تركتني طوال هذه السنين أواجه قسوة الحياة وحيدة؟ أصحيح أنهم اعتقلوك في سجن بعيد في الصحراء من يدخله لا يرى النور بعدها أبداً؟ هل عذبوك؟ هل امتهنوا كرامتك كما امتهنوا حريتك؟ كيف تنام؟ ماذا تأكل؟ أبرد في السجن أم حرارة لا تطاق؟ لماذا لا تتكلم؟ أخبرني عنك.. قل لي شيئاً أرجوك.
لم يجب عن أي من تساؤلاتها الحيرى.. بل ألح في صمته وألح في ضمها إلى صدره.
مررت أصابعها في شعر ذقنه التي غدا أكثره فضي اللون كحال شعرها، وتابعت تقول: لا أستطيع البقاء هكذا أكثر من ذلك.. العمر يجري بنا، وأخشى ما أخشاه أن ينتهي.. أنا هنا وحيدة، وأنت وحيد هناك، ألا تستطيع أن تبقى معي أو أن تأخذني معك إلى مكانك البعيد؟
وقبل أن ترتوي من رائحته وحبه، توالت على الباب طرقات قاسية صاخبة رافقتها كلمات بذيئة وشتائم شتى صعب عليها استيعابها لقذارتها.. انتشلها ذلك من بين يديه فجأة وقذف بها بقوة أمام الباب؛ لئلا يقوموا بتحطيمه كعادتهم إذا تلكأت في فتحه.
انطلقوا إلى الداخل بعنف وسرعة وصخب.
– أين حسن أيتها الـــ..؟
– احفظ لسانك.. أنت في بيت ناس محترمين.
– لو كنتم محترمين لما تآمرتم هكذا على أمن الدولة.
– عن أي مؤامرة وأي دولة وأي أمن تتحدث؟ هل بقي لنا دولة أو بقي لنا أمن؟
– اختصري في الكلام قبل أن أهشم رأسك.
– ماذا تبغي يا هذا؟
– قلت لك: أين حسن؟
– أنتم أخبر مني أين هو.. أتتخيل لو أنني أعلم مكانه أكنت سأبقى هنا أنتظر؟ لو كنت أعلم أين هو لذهبت إليه وبقيت معه لا يفرق بيننا إلا الموت.. أنت أخبرني: أين ذهبتم به؟
– اذهبي إلى الجحيم أيتها الـــ…
فتَشوا سجنها الصغير على عجل، وغادروه بعد أن جعلوا عاليه سافله رغم ندرة محتوياته وشدة تواضعها..انهارت جدران صبرها، وتهدمت أجزاء من ثباتها..
وعادت تبحث عنه لتلوذ بصدره الحنون، ليحميها من قسوة الوحدة التي تقصم أيامها وتلفظها بقايا لأنثى غاب عنها رجلها في غياهب سجون ظلم وطغيان.
لم تجد إلا سراباً بدده نور المصباح الخافت الذي تراقص لهيبه لمرور نسمات تحمل شذى الزوج الغائب في ثناياها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.