قال محمد حسنين هيكل، تعليقاً على ثورة ربيع 2011 في اليمن، إنها "ليست ثورة، وإنما قبيلة تحاول أن تتحول إلى دولة"، والأصح أننا في اليمن ومنذ 1962 عبارة عن قبائل تحاول أن تتحول إلى دولة.
في تاريخنا لحظات نجاح وإنجازات، لكننا سرعان ما فقدناها جميعاً؛ لأن بقاء القبيلة وشيخها والانتماءات المرتبطة بها ساهمت في الإجهاز عليها وإخماد شعلتها.
في اليمن اشتدت الدعوات لانفصال الجنوب عن الشمال في هذا الوقت؛ لأننا -اليمنيين- ومعنا الكثير من العرب ما زلنا قبائل، في اليمن الرئيس عبدربه منصور هادي من المناطق الجنوبية، ورئيس الحكومة الدكتور أحمد بن دغر والوزراء من المناطق الجنوبية، ومع ذلك فالمجلس الانتقالي ينادي بانفصال جنوب اليمن، ويذهب البعض هناك أبعد من ذلك، فيتنصلون من كل ارتباط حتى باسم اليمن، ويصرون على تسمية جنوب اليمن بالجنوب العربي.
وفي حين كانت المشكلة في حرب انفصال 1994 شمالية – جنوبية، فهي اليوم جنوبية – جنوبية، فصاحب يافع يرفض صاحب أبين، وصاحب يافع مستعد لقتل صاحب أبين، بل وأبناء عدن الذين انقسموا بين فريقي الشرعية والانفصال يقتل بعضهم بعضاً ثم تجمعهم مقابر المدينة التي أحبوها بنفس القدر.
في الشمال ما زال البعض يتمسك بالوحدة من منطلق إما القومية أو من منطلق إسلامي، أما أنا وكثيرون مثلي فصرنا نرحب بالانفصال علّه يكون الخلاص من أزمة الثقة، وعلّه يخمد بركان الكراهية والأحقاد والعنصرية والجهل والاستغباء؛ ليفسح الطريق أمام اليمنيين، فيتفرغ كل واحد منهم لبناء قبيلته الشمالية أو الجنوبية، وربما قبيلته اليافعية والشبوانية والصنعانية والتعزية والحضرمية والمهرية والتهامية.
ينتفض البعض أمام هذا الطرح، ويعارضون التفكك والتمزق، وكأن الوحدة هي الخلاص، وأنها تؤسس للوحدة العربية التي كانت -وما زالت- سراباً وضرباً من الخيال.
قرون وعقود وتاريخ طويل وأحداث كثيرة شهدناها في حياتنا لم تعلّم بعضنا بعد أن التمسك بالهوية الإثنية أو الوطنية أو الإقليمية ليس نتيجة مؤامرة أميركية أو صهيونية، بل نتيجة نزعة بشرية للاستئثار بالسلطة والانفراد بها.
تعقيدات العالم الذي نعيشه اليوم وتحدياته الاقتصادية لم تعلمنا بعد أن الحسابات تغيّرت، وأن متطلبات الحياة ومعايير العيش قد تغيّرت، وأن الوحدة العربية الهلامية صارت أقرب إلى الخيال الأدبي الذي يُسهم في إحباط الشعوب وتخديرها، وهي تنتظر الخلاص من فارس يخطب بهم الخطب العصماء، ثم يموت مهزوماً مقهوراً.
البعض يستدعي التاريخ الإسلامي، وينادي بالوحدة اليمنية من منطلق إسلامي، كمقدمة لوحدة الأمة الإسلامية والخلافة، وكأن اليمني والمصري والمغربي والعماني والحجازي والنجدي كانوا يعيشون في ترف العيش في تلك الحقبة التاريخية، بينما التاريخ يخبرنا عن جوع وفقر ومجاعات ومجتمعات تغزو فيها القبيلة الأخرى، وتعيش فيها برحمة المولى وما تيسر لها من الأمطار والحبوب المخزونة من عام إلى عام.
سيحدثونك عن الجيوش الإسلامية التي كانت تسيطر على الأندلس، وتحاول اقتحام فرنسا كدليل قوة وجبروت، لكنهم لن يحدثوك أنه في نفس الوقت كان الناس في اليمن والحجاز وصحاري وقفار شمال إفريقيا يعيشون كل يوم بأدنى ما يمكن أن يعيش به إنسان.
في ذلك الحين وبينما جيوش المسلمين تمتد في الشرق والغرب لم يكن المواطن المسلم بحاجة إلى مدارس فيها مكيفات وأجهزة ضوئية ورقمية وشبكات ألياف ضوئية، ولم يكن المواطن المسلم في نجد والحجاز وحضرموت وليبيا والمغرب وجنوب مصر والسودان بحاجة إلى مستشفيات مجهزة تحترم إنسانيته وآدميته، وتوفر له العناية التي يستحقها.
نعم كانت الدولة الإسلامية قوية عسكرياً، وامتدت شرقاً وغرباً، لكن هل وفرت حياة كريمة للمسلمين في كل البقاع؟ وهل ينطبق ذلك النموذج على واقع اليوم ومجتمعات اليوم؟
نعم في الوحدة قوة، لكنها لا تأتي إلا مع وحدة القلوب، ومع تفكير إنساني يخلص الإنسان من نزعات الانتماءات القبلية والمناطقية الضيقة؛ ليستبدلها بنزعة إنسانية أو على الأقل نزعة وطنية.
اليمنيون بحاجة إلى وحدة، لكنهم قبل الوحدة بحاجة إلى عنصر بشري قائد ينتمي إلى تراب الأرض، وقبيلة الإنسانية والوطنية.
ساهم علي صالح في صنع الوحدة، وساهم في هدمها؛ لأن ممارساته عكست عنصرية القبيلة التي انتمى إليها، والتي كانت بداخله على الرغم من كلماته التي كانت تقول غير ذلك، وفي حين كانت عنصريته وسياساته الاستعلائية تشمل المحافظات الأخرى في الشمال، مثل تعز والحديدة، إلا أن تاريخ جنوب اليمن جعل المواطنين في تلك المناطق أكثر تحسساً وأشد رفضاً لها؛ ليصبح ذلك دافعاً للكثير منهم للبحث عن الخلاص والانفصال.
سيناريو مكتوب له أن يتكرر حتى وإن انفصل جنوب اليمن عن شماله، فقد يجيء سلطان يافع ليحاول الهيمنة والاستعلاء على المواطن في شبوة وأبين وحضرموت، فيدفع ذلك الآخرين إلى استدعاء تاريخ استقلالهم هم أيضاً، فتستقل حضرموت ومناطق أخرى؛ لتبحث هي الأخرى عن تقرير المصير.
لا بأس في الانفصال في اليمن؛ لننزع فتيل الحقد والكراهية، ولنخوض تجربة جديدة، ربما تأتي بالأفضل وربما تأتي بكراهية وأحقاد على نطاق جغرافي أضيق، فيتحول الحقد والمقت من جنوبي شمالي إلى يافعي شبواني حضرمي، وتعزي صنعاني تهامي.
لا بأس في الانفصال علّه يخلصنا من عقيدة أن الآخر هو المسؤول عن أوضاعنا البائسة، فيستبدله بآخر يتسلط علينا، عزاؤنا فيه أنه أقرب إلينا ممن تخلصنا منه.
في اليمن لن أفرح للوحدة مجدداً؛ لأنها ستكون وحدة قبائل، ولن أفرح للانفصال؛ لأنه سيكون انفصال قبائل، ما يهمني أكثر هو كيف يحصل اليمني الإنسان أينما كان في شبوة أو يافع أو تهامة أو خولان أو مأرب أو حضرموت أو عدن أو تعز أو صعدة أو عمران على حياة كريمة، ورعاية صحية تحترم آدميته، وتعليم يؤهله لأداء دوره، والحياة باستقلالية تغنيه عن التسول والعوز والاتجار بكرامته وأرضه وحياة الآخرين من شعبه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.