يحكى في قصص التراث الشعبي المغربي عن قصة قايد، إحدى القرى قديماً (القايد هو منصب رجل سلطة يمثل الدولة في أقرب مستوياتها على كل تجمع للمواطنين في القرى والمدن على حد سواء)، دخل القرية على أهلها يوماً وسط حاشيته، فالتقى في طريقه وهو يمتطي جواده درويشاً يعرف بالزهد والعبادة، فحاول القائد نبش الدرويش والتهكم عليه، فقال له: "أيها الدرويش ألا تخبرني كيف يرفع الله من قدر عباد ويخفض من قيمة آخرين؟"، فنظر إليه الدرويش أسفل حصانه، ورد عليه قائلاً: "أيها القايد، هذا سر لا يجوز أن أخبرك إياه وسط الجموع، فترجل عن جوادك، وانزل لدي أخبرك إياه".
ففعل القايد ما قاله الدرويش؛ ليستغل الدرويش حينها نزول القايد من على جواده، ويسترق في رمشة عين درج السرج ويرتقي على حصان القايد، ويترك الأخير في موقف محرج أمام حاشيته، قبل أن يخاطبه قائلاً وقد تغيرت مواقعهما: "هكذا يفعل الله في ملكوته فيرفع مَن يشاء ويخفض مَن يشاء فاعتبِر".
ما حدث قبل أيام في المغرب، وفي عز أيام رمضان هذا العام، يكاد يقترب من قصة هذا الدرويش وهذا القايد، فبدون سابق إنذار أو إخبار عادي، نزلت حملة تدعو المواطنين للاستغناء عن استعمال الأكياس البلاستيكية (الميكا) في تعاملاتهم المادية، سيراً على توجيهات مشروع حكومي جديد، يمنع استعمال هذه الأكياس التي يدخل استعمالها ضمن التشكيل الثقافي الشعبي لمغرب الأمس واليوم، وتعويضها باستخدام القفة المصنوعة من عشبة "الدوم".
فيما أطلق على هذه الحملة شعار "زيرو ميكا"، أي "صفر بلاستيك"، دلالة على إعدام الميكا في استعمالها وإعدام ثقافتها، بسرعة قصوى، لا تحتمل تأخيراً قد يؤثر على نجاح قمة المناخ COP22 التي سيستضيفها المغرب نهاية هذا العام 2016.
قد يعتبر موضوع "زيرو ميكا" جميلاً ولطيفاً لا يحتاج لنقاش أو نقد، خصوصاً عندما يتعلق بمشروع وطن، لكن المثير في هذا، هو التحركات التي وبمجرد انطلاق الحملة انخرطت فيها كما العادة، جل الوجوه المعروفة في السياسة والفن والإعلام وغيرها من مشاهير الوطن، وذلك عن طريق إطلاق "حملة موازية مصور" تقضي باقتناء هؤلاء المشاهير لـ"قفة الدوم"، والتقاط صور رفقتها بابتسامة عريضة، ونشرها عبر حساباتهم في مواقع التواصل، تحفيزاً منهم للجميع بالحذو حذوهم في مشروع الميكا.
إلى هنا تبدو قصة الدرويش والقايد بعيدة عن حملة الميكا والقفة، لكن بمراجعة بسيطة في تقاليد حلول شهر رمضان بالمغرب، شهر الرحمة والغفران، تجيب عن هذا اللبس، فمع حلول الشهر الفضيل كل عام وعلى مدى سنوات عديدة، ألف الجميع إطلاق عملية واسعة، تقودها الدولة في مستويات خاصة، وتقودها الأحزاب السياسية على مستويات أخرى، وهي حملة يطلق عليها إعلامياً عنوان "قفة رمضان"، وتقضي بتوزيع هؤلاء المتبرعين على الفقراء وذوي الحاجة قدراً معيناً من مكونات الطعام الأساسية، على شكل عطية لا تكتمل رمزيتها إلا بحشر تلك المواد في "قفة الدوم" التي تعني ما تعنيه على انفتاح فوهتها التي لا تنغلق حتى يرى الجميع ما حوته من "خير وكرم"!
لقد ازدادت البهجة والدهشة في نفوس الجميع، وهم يراقبون كيف استطاعت "حملة المناخ والميكا" أن تنزل بالطبقات الراقية المتجسدة في القايد في القصة السالفة، إلى مستوى الطبقات الكادحة، المنحسر قدرها في رمضان بالقفة والمقابلة في معناها للدرويش الذكي، وكأن ملكوت الله وقدرته كما أخبر الدرويش، شاءت أن تجعل لأهل القايد قفتهم الخاصة في رمضان حتى تتبادل الأدوار أو تتساوى ولو مرة واحدة في العمر، وإن كانت قفة الطحين والزيت الممنوحة لتلك الطبقات لا تكفي ولو للعشر الأوائل من رمضان، لا من حيث كمية غذائها، ولا من حيث أجرها الطامع إليه أصحاب "القفة المناخية المودرن"، الذين لم يحسبوا حساباً لنزولهم من على جيادهم المتبخترة وسط حواشيهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.