اعتُبر علم السياسية فرعاً من العلوم الاجتماعية منذ نهايات القرن التاسع عشر، ويمتزجان تماماً في علم يسمى الاجتماع السياسي، وخلال النصف الثاني من القرن العشرين ازداد الاهتمام بالبحوث الاجتماعية في مجال السلوك، لا سيما السلوك الانتخابي واتجاهات الرأي العام نحو الموضوعات السياسية المختلفة، وعمليات اتخاذ القرارات في المجتمعات المحلية الكبيرة والصغيرة، وغير ذلك من البحوث التي يأمل القائمون عليها استخلاص ما يمكنهم من التنبؤ بالمستقبل القريب؛ لوضع هذه النبوءات أمام صناع القرارات، لا سيما تلك التي تتعلق بحياة الجماهير.
وقد يندهش البعض من محاولة تحليل المشاهد التي صنعها بإبداع جمهور نادي الزمالك باتجاه وداخل استاد برج العرب أثناء لقاء إياب نهائي دور الأبطال الإفريقي وربطها بدعوات النزول يوم 11/ 11 والمسماه بثورة الغلابة.
وللتوضيح يجب أولاً تعريف العمل الجماعي بأنه اتحاد مجموعة من الأفراد والاشتراك فيما بينهم لتحقيق هدف توحدوا من أجل إنجازه، وتكمن أهمية هذا العمل في أن الإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين، ويحتاج لغيره من الأشخاص من أجل إتمام مسيرة حياته، فضلاً عن روعة تبادل الأفكار والخبرات مع الآخرين وانعكاساتها على حياة الفرد.
والذي صنعته جماهير الزمالك باعتبارها عينة عشوائية غير متحيزة من المجتمع المصري يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الجماهير المصرية، لا سيما الشباب منها، لا يزال بداخلهم رغم إحباطات ما بعد ثورة يناير/كانون الثاني القوة الدافعة لدعم عمل جماعي يهدف لتحقيق أمل عام، وإن كان بعيد المنال، مثل فوز الزمالك بالبطولة بعد هزيمته الثقيلة في مباراة الذهاب.
ودعونا نتأمل قرار السفر إلى استاد برج العرب بما ينطوي عليه من تكلفة مادية، واحتمالات مواجهة شرطة باطشة غير آدمية لا جائر منها إلا حول الله وقدرته، ثم حماس الهتافات المتصلة تشجيعاً لفريق مهمل آماله في البطولة تكاد تكون معدومة، يرأسه شخص لا يشك اثنان أنه بحاجة لزيارة طبيب نفسي متمرس.
هذا القرار الجماعي بتكاليفه الحدية يجعلني أكاد أجزم أن هؤلاء الشباب على استعداد تام للتضحية الأكبر من أجل الهدف الأكبر، إنقاذ مصر، ولا ينقصهم لتفعيل هذا القرار على أرض الواقع إلا ضرب موعد للمباراة النهائية مع حكم العسكر، تقام في ميدان التحرير وقد يكون 11/11 موعداً لانطلاق هذا النهائي، خاصة بعد أحداث الأسبوع الأخير الذي رسم ملامح الحكم الحالي بريشة تفوق خيال أعظم التشكيليين؛ حيث انتبهت مذهولاً حين علمت أن بداخل مصر سجناً أطلقت عليه وزارة الداخلية اسم "سجن المستقبل"، ويا له من اسم! ويا لشفافية من اختاره! حيث إن هذا الاسم يعبر بصدق دامغ عن واقع الحياة في مصر التي يُسجن فيها المستقبل الذي حاول الشباب تحريره في يناير، المستقبل في مصر سجن كبير، يا له من واقع مرير يريد العسكر تكريسه في بلاد عريقة، أفقدوها دورها وأهميتها الإقليمية وريادتها، وأخيراً أفقدوها قيمة عملتها.
واقعة سجن المستقبل تكشف أيضاً عن حجم الفساد داخل جهاز الشرطة المنوط بحماية سجن النيل الكبير ومصالح الفاسدين فيها، ورعاية نزواتهم مهما كانت مجنون ، والضرب بيد من حديد على كل صوت حر يحلم بهدم أسوار هذا السجن البالي؛ لأنه ضد طبيعة الحياة وإرادة خالق هذا الكون.
الشباب الذين ذهبوا لتشجيع الزمالك في استاد برج العرب ذكروني جزئياً بالشباب الذين نزلوا يوم 25 يناير وهم على يقين بأن داخلية حبيب العادلي بقدها وقديدها ستكون في انتظارهم، ومع ذلك نجحوا في اقتحام الميدان مساء جمعة الغضب؛ حيث فشلت الداخلية في مواجهته ، كما فشلت في مواجهة الهاربين من سجن المستقبل، وكالعادة استعانت بالجيش لإنقاذها من جبنها وفشلها المعهود؛ حيث إن ضابط الشرطة في مصر – كما قال لي أحدهم بالنص – يعمل ليخيف الناس بحلته الشرطية، فإن لم يخف الناس تقوم الشرطة باستدعاء الجيش كي يتصرف هو في رعيته والأمثلة كثيرة في أعوام 77 و 86 وكل ما بعد 2011 .
كنت في حوار طويل مع قائد إحدى الكتائب المصرية قبل 30 يونيو/حزيران كانت تربطني به صداقة قديمة، أفصحت له عن قناعتي بأن تغيير نظام الحكم الذي أفرزته ثورة يناير حتى وإن اختلفنا معه وتخوف البعض منه سيُدخل البلاد دوامة عنف لا يعلم مداها إلا الله، حاورته حتى أجهدته محاولة مني لسبر موقفه الذي يعبر دون شك عن موقف الجيش أو قطاع عريض منه، كما حاولت أن أستخلص من حواره ملامح المستقبل القريب الذي بدأت أتخوف منه ليقيني بقرب تفجر شلالات الدماء، إن مضى القائمون على 30 يونيو في طريق الانقلاب، وإيماني بأن الأرض أبداً لا تشرب الدماء الحرام، وأن اللعنات ستتوالى على شعب يغض الطرف عن سفكها أو يبرره، وانتهى النقاش بإرادتي عند عبارة لخصت لي الموقف كله ما زال صداها يتردد في أذني قال فيها:
– انت عاوزني أدي التحية العسكرية للمرشد.
هكذا الأمر ببساطة، لا يريدون أداء التحية العسكرية لشخص مدني يؤمنون أنه ينتمي لطبقة أدنى منهم لا لشيء سوى أنهم التحقوا بالكلية الحربية التي تقسم المصريين إلى سادة ونبلاء أو بارونات تجري في عروقهم دماء ملكية، ومواطنين لا ثمن لهم، طبيبهم ومهندسهم بل عالمهم يدفعه قانون التجنيد الإجباري، لخدمة شخوص قادتهم، بل يمكن حبسه بقرار من أحد منه ، بل يمكن أن تنتهي حياة هذا المجند بطلقة يقوم ذووه بسداد ثمنها للجيش.
والغريب أن هؤلاء الأمراء العسكريين فقدوا واحداً منهم هذا الأسبوع بطريقة مريبة، إن أحسنا الظن وصفناها بالإهمال الأمني الداعر، وكيف نثق اليوم في أي إجراءات أمنية لنظام فشل في حماية قائد إحدى فرق المدرعة الهامة، والأغرب أن النظام الذي نشر صور أشلاء جنودنا المُبتلين في سيناء، لم يصدر عنه بيان يوضح كيف تمت هذه التصفية، وكيف هرب الجناة بهذه السهولة، بل كيف عبروا بأسلحتهم على كل الأكمنة المنصوبة ذهاباً وإياباً، ولم تتوقف الدهشة عند هذا الحد، بل انتظرنا جميعاً أن نشاهد السيسي بأدائه التمثيلي المهترئ وهو يتصدر جنازة العميد رجائي يذرف دموع التماسيح على هذا الفقيد الغالي، متوعدا الإرهاب الأسود بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولكن السيسي الذي لا يضيع فرصة ارتقاء منصة التمثيل على المصريين البسطاء لم يظهر هذه المرة، ودفعت أو تطوعت زوجة الفقيد الثكلى لتسيّس هذه الفاجعة نيابة عنه بدعوة الشعب بالصمت والصبر على أزمات تضرب حياتهم اليومية دون أسباب مفهومة مثل أزمة اختفاء السكر؛ لأن السيسي يحارب الإرهاب.
وازدادت الدهشة والحيرة حين شاهدنا في اليوم التالي جنازة مهيبة للمقدم محمد الحسيني، رئيس المباحث الذي تصدى لمحاولة الهروب من سجن المستقبل، شارك فيها مساعد وزير الداخلية ومحافظ بورسعيد ومحافظ الإسماعيلية ومحافظ شمال سيناء والمستشار العسكري لمنطقة القناة وغيرهم من أمراء العسكر، فهل يبعث هذا الاختلاف الواضح بين المشهدين شيئا داخل نفوس ضباط جيشنا الباسل من الرتب المتوسطة والصغيرة ، وهل بعد دفن العميد الفقيد بهذه الطريقة البائسة يمكن أن يقبلوا تحريك مدرعاتهم لتظاهر الشرطة من جديد إذا ما قرر شباب مصر المستقبل النزول لتغيير واقع مصر البائس الكارثي، أم أن الدماء المصرية النقية ستثور في عروقه ، وقد أدركوا أن كبراءهم في الواقع لا ثمن لهم أيضا إن رأى النظام تصفيتهم لأسباب تخصه؛ ليقرروا حينها تنفيذ ودعم إرادة الشعب وحده، فتكون المرة الأولى يفعلونها بصدق منذ العام 1952 ، وتحية لجماهير الزمالك الرائعة الصادقة من مشجع أهلاوي صميم، تحية أتمنى تقديم أضعافها لكل من سيتحرك لإنقاذ محبوبتنا مصر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.