هي ظاهرة منتشرة جدا في المساجد، ويركن إليها بعض المسلمين في البيوت أيضا، وهي مرتبطة بشهر رمضان بصفة خاصة بسبب رغبة اكثر المسلمين في الزيادة من الخير والاستكثار من العبادة والطاعة، ولا تكاد توجد في غير رمضان!
إنها ظاهرة القراءة من المصحف في الصلاة وبخاصة في التراويح.
ويكثر سؤال الناس عن حكم ذلك شرعا لإدراكهم ان الشيوع ليس معيارا للجواز أو الصحة، فليس كل ما هو شائع صحيح.
ولذا فسوف نحاول بإذن الله البحث عن حكم هذه الظاهرة شرعا للإمام والمنفرد من جهة والمأموم من جهة أخرى .
أولا: القراءة من المصحف للإمام والمنفرد
اختلف الأئمة فى قراءة الإمام من المصحف، فأجاز الشافعى ذلك بلا كراهية، يستوى فى ذلك أن يكون الإمام حافظا أو غير حافظ. وذلك لما روى ابن أبى مليكة عن عائشة رضى الله عنها: "أنها أعتقت غلاما لها فكان يؤمها فى رمضان فى المصحف" (أخرجه ابن أبى شيبة وعلقه البخارى في صحيحه).
ولما جاء فى الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه أن ذكوان أبا عمرو- وكان عبدا لعائشة رضى الله عنها زوج النبى صلى الله عليه وسلم فأعتقته- كان يقوم يقرأ لها فى رمضان" (حديث رقم 252).
وأما الأحناف فقد قال أبو يوسف ومحمد: يُكره للإمام النظر فى المصحف إن كان غير حافظ، لقول أبى حنيفة: "بلغنى عن ابن عباس أنه قال فى الرجل يؤم القوم وهو ينظر فى المصحف أنه يكره ذلك، وقال: كفعل أهل الكتاب" (الآثار لأبى يوسف ص14).
وقال جمهور الأحناف: تفسد الصلاة إن كان الإمام غير حافظ ؛ لأن التلقن من المصحف تعلم وليس من أعمال الصلاة فيفسدها إذا قرأ ما تصح به صلاته، وأجابوا عن أثر عائشة رضى الله عنها بأن الذى فى الموطأ أن ذكوان- عبدها- كان يقوم يقرأ لها فى رمضان، فليس فيه أنه كان يقرأ لها فى المصحف، وإن صح ما روى ابن أبى شيبة يحمل على أنه كان يراجع المصحف قبل الصلاة ليكون قريب عهد بما يقرؤه.
والذى نرجحه ونميل إليه كراهة نظر الإمام فى المصحف وكذلك المنفرد فى الصلاة وذلك للأسباب التالية:
1- لأن فعل عائشة رضى الله عنها- إن صح- لا يقاس عليه، لأنها رضى الله عنها امرأة، وصلاة ذكوان بها يُحمل على الضرورة، إذ لا يجوز العكس لحديث: "لا تؤمن امرأة رجلا" (رواه ابن ماجه)،وفي إسناده مقال ، لكن العمل عليه عند جمهور العلماء.
2- أننا لم نجد أثراً- صحيحاً أو ضعيفاً- يصرح أو يلمح إلى أن رجلاً أمَّ رجلاً من المصحف، وهى الحالة التى كانت تصلح دون شك للقياس عند من يجيزه فى العبادات ولذلك ذهب الشيخ الشعراوى رحمه الله إلي أن القراءة من المصحف في الصلاة بدعة (وقد نشرت هذه الفتوى بجريدة أخبار اليوم قبل وفاته).
3- أن الانشغال بالمصحف وحمله، وتقليب صفحاته يشغل الإمام ويلفت نظر المأمومين وقد يذهب بالخشوع، ولذلك فهو من مكروهات الصلاة عند بعض الأئمة، فقد قال الإمام أحمد بن حنبل: "كانوا يكرهون أن يجعلوا فى القبلة شيئا حتى المصحف" (الدين الخالص 3/168).
فقوله: "كانوا يكرهون" يدل على أن العلماء فى زمانه كانوا يكرهون النظر فى المصحف أو وضع المصحف فى القبلة، بحيث صار هذا الحكم معروفا شائعا عنهم.
4- أن الصلاة ليست مجالاً للتعلم كما قال الأحناف.
5- أن ابن عباس رضى الله عنهما كره القراءة فى المصحف فى الصلاة، ورأى فيها تشبها بأهل الكتاب.
6- أن قراءة الإمام من المصحف نذير سوء، ودعوة لعدم الاعتداد بحفظ القرآن ولا بالمراجعة، وقد حدث أن بعض الأئمة ركن إلى ذلك ولم يعد يراجع ما يحفظ من القرآن، بل إن بعض الأساتذة توقفوا عن المراجعة وبخاصة بعد الدكتوراه وفى ذلك من الخطر ما فيه.
7- الإمامة لا تكون إلا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن سلمة : "وليؤمكم أكثركم قرآنا" (البخارى رقم 3963) فهذه الرواية صريحة فى أن الإمام هو الأحفظ، ولذلك جاء فى تتمة هذا الحديث : "فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا منى لما كنت أتلقى من الركبان فقدمونى بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين".
قال الشوكانى: "المراد بالأقرأ الأكثر قرآنا لا الأحسن قراءة" (نيل الأوطار 3/197).
ولذلك أقول: إن على إدارات المساجد أن تبحث عن الحفظة المتقنين أولا وهم كثر بفضل الله، فإن كان المسجد فى مكان لا يوجد به حفظة، فالأولى أن يقرأ أكثرهم قرآنا بما تيسر له
وهذا يدعونا للتذكير بدور المسجد الأساس فى تربية أولاد المسلمين وتعليمهم القرآن، وترغيبهم فى حفظه، لا كما يحدث الآن. وإلى الله المشتكى!
ثانياً: النظر فى المصحف للمأموم فى الصلاة
قبل أن نبين الحكم الذى نميل إليه، نسوق الاعتبارات التالية:
1- نظر المأموم فى المصحف لم يرد به نص- صحيح أو ضعيف- وأما أثر عائشة رضى الله عنها- إن صح- فهو فى نظر الإمام وليس المأموم.
2- القياس فى العبادات لا يجوز عند أكثر العلماء.
3- قياس المأموم على الإمام- إن قلنا بجواز القياس- فى هذه المسألة قياس مع الفارق لأن الإمام مأمور بالقراءة فى الصلاة، أما المأموم فمأمور بالاستماع لقوله تعالى: "وإذا قُرئ القرءان فاستمعوا له، وانصتوا لعلكم ترحمون" أي : إذا قرئ القرآن في الصلاة خاصة – كما يرى الإمام أحمد – فيجب الاستماع والإنصات ، وإن كان من قراءة يخالج بها الإمام؛ ففاتحة الكتاب فقط، كما صرحت بذلك السنة الصحيحة.
4- لا يوجد حاجة لنظر المأموم فى المصحف: فإن قيل لتلقين الإمام والفتح عليه إن أخطأ قلنا هذه مهمة الحفظة خلف الإمام، ولا يجوز دخول الصلاة من أجل تلقين الإمام، فليست هذه نية صحيحة للصلاة كما ذكر العلماء وإن قيل لمراجعة ما يحفظ، أو تعلم أحكام التجويد قلنا ليست الصلاة محل ذلك، بل محل ذلك حلقات التجويد والتلاوة وإن قيل للخشوع، قلنا، الخشوع يكون بالتدبر فيما يقرأ الإمام "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"، وليس بالنظر فى المصحف، إذ لم نجد أحداً من السلف- بل من الخلف أيضاً- قال إن هذه وسيلة للخشوع!
وقد مال الشيخ ابن باز رحمه الله في فتوى تتعلق بهذا الموضوع إلى كراهة نظر المأموم في المصحف .
اما الخلاصة عندي فهي أني لا أرى وجها لجواز النظر فى المصحف للمأموم، فلا دليل عليه شرعا ولا حاجة إليه عقلا، وعلينا الخروج من الخلاف قدر المستطاع.
والله تعالى أعلى وأعلم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.