لا يبعد البيت عن الآخر سوى بضع خطوات ولا تبعد المدرسة عن منازلهم سوى شارعين ولكن لا يبعد القلوب عن بعضها شيء فهم أصدقاء في الظاهر، وعندما تقترب منهم تعرف جيداً أنهم إخوة، فهم يأكلون، ويذاكرون، ويلعبون ويذهبون للمدرسة معاً، يعشقون الجلوس مع بعضهم البعض وكأنهم توأمان، يختلفان في الشكل ولا فرق بينهما في السلوك والطباع، شبا على الحب والصداقة.
أنهيا المرحلة الابتدائية وبدآ صفحة جديدة من حياتهما، كان أهم ما يميزها جلساتهما الكثيرة وأسرارهما المتبادلة، كان مشوار المدرسة هذه المرة يبعد كثيراً عن ديارهم، لكن من وجهة نظرهم أن هذا أمر محبب إلى قلوبهم؛ لأنهما كانا يمضيان الوقت في الضحك والمزاح والتسلية، عرف الناس عنهم حسن الخلق والمروءة، كان يطلق عليهما في المدرسة النصف وكله، أي يكمل كل منهما الآخر، وما أجمل تلك اللحظات التي كانوا يلهون فيها معاً في الحقل، عندما يجلس الإنسان منا في مكان مليء بالخضرة يشعر بالبهجة والسرور من جمال وبديع المنظر، لكن الخضرة هي التي كانت تشعر بالسعادة من وجودهما فيها.
ذات يوم دار بينهما نقاش حول المستقبل الذي ينتظرهما، قال أحدهما: أتمنى أن أكون محامياً، لأدافع عن المظلومين، وأعلم الناس في بلدتنا معنى القانون وكيف يحترمونه، ورد عليه الآخر أريد أن أكون ضابطاً حتى أحاكم المجرمين، وأقبض على المتمردين، وأزج في السجن كل من يخالف القانون، كانت أحلامهم كشخصياتهم مكملة كل منهما الأخرى، ولم تغير مرحلة الثانوية مرح الشباب وبراءة الطفولة فيهما، فرغم أن معظم الوقت كانا يقضيانه في المذاكرة وتحصيل الدروس، إلا أن رابط الصداقة أصبح أقوى من مراحل حياتهما السابقة، فكانا يقضيان وقتهما في المراجعة وتبادل الأسئلة كل يوم في منزل أحدهما.
انتهت امتحانات الثانوية وأرادا أن يقضيا يوماً بعيداً عن جو المذاكرة وينسيهما أرق السهر، فاتفقا على رحلة في عرض نهر النيل، واستيقظا مبكراً وأحضرا قارب صيد ليكون وسيلتهما في الرحلة، فبدآ في الإبحار في عرض البحر، وسمعا طلقات رصاص وأصوات نساء يصرخن وأطفال تستغيث، فأوقفا التجديف وأخذا ينصتان إلى مصدر الصوت، نعم إنه قادم من قريتهما، نظرا لبعضهم البعض بشيء من الخوف والرهبة، وقال أحدهما متى تعيش هذه القرية في أمان، متى نسمع فيها صوت الأذان بدلاً من الرصاص، لا أرى شيئاً أرخص في هذه القرية من دم أبنائها.
رد عليه صاحبه بابتسامة تسبقها مرارة الواقع، إن قريتنا لن تعرف يوماً معنا للراحة، لم يغيرها دين، ولم تعترف بالعلم، زادت حدة الأصوات مع طلقات الرصاص المتتالية، أخفق قلب الصديقين وقررا أن يلغيا رحلتهما التي لم تبدأ بعد، وعندما دخلا القرية وجدا الكل ينظر إليهما بغرابة ودهشة، ولم يشعرا إلا بأقدامهما تسبق الرياح إلى مصدر صوت الرصاص، وفي لحظة توقفا في مكانهما، وكأن أقدامهما التصقت بالأرض، فصوت الرصاص مصدره الشارع الذي يسكنان فيه والشظايا غطت على ضوء الشمس، وفي هذه اللحظة تفرقت بهما الشوارع، كل منهما ذهب ليبحث عن أهله، بعد فترة ليست بقصيرة هدأت القرية، وانتهى صوت الرصاص، ولكن لم يهدأ الصديقان.
لقد وقع ما كانا يخشيانه، ولم يفكرا فيه للحظة، لقد سقطا في فخ أخطاء الأهل ووقعا في مصيدة الثأر بين عائلتيهما وبعد أن كانا جزءاً واحداً أصبح كل منهما يتربص بالآخر، وذلك بحكم العادات والتقاليد الغبية التي تحكم المكان الذي يعيشان فيه، لقد قتلت عائلة أحدهما أخا الآخر، فليس أمامه إلا أن يحمل السلاح ليأخذ بثأر أخيه، أو عليه أن يترك القرية بلا رجعة تسبقه لعنة القرية، ويلبس جلباب العار، أما الآخر فلم يجد مفراً من ارتدائه لعباءة الآباء والأجداد، وأن يكون حمل السلاح هو منهجه.
وذات ليلة حالكة السواد تربصت العائلتان ببعضهما البعض، وعمت العادات والتقاليد قلوب الصديقين، وطغى الجهل على أحلام المستقبل، فذهبا إلى مكان لا يعرفه أحد سواهما، كل منهما يبحث عن الرجولة ودور البطولة، فالتقيا كعادتهما، ولكن هذه المرة لم يأتيا ليتسامرا، جاءا للانتقام بدافع من حقد الآباء والأجداد، اختبأ كل منهما في مكان الذكريات الجميلة، وكل منهما يصوب السلاح تجاه الآخر، وفى لحظة كان إبليس فيها هو سيد الموقف، وماتت أمامهما كل ذكريات الماضي وأحلام المستقبل، وضغطا على زناد البندقية في لحظة واحدة.
وقبل أن تخرج الرصاصة من فوهة البندقية خرجت الدمعة من أعينهما، لتعلن مقتل الحب والصداقة في عالم الجهل والحقد، استقرت الرصاصة في قلب الصديقين، وكأنهما اتفقا على أن يتشابها في كل شيء حتى الموت، خيم الظلام على القرية فلم يعد فيها معنى للوفاء، ولا صوت يعلو فوق صوت الجهل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.