لن أعود بدون العشر ليرات

كان يدفع عربة صغيرة معدنية من تلك التي تستخدم في أعمال البناء، فيها تلة صغيرة من الأكياس التي تحوي مواد غذائية مبتاعة من مراكز الخاصة باللاجئين في المخيم، كان متجهاً إلى الحي التاسع مقابل ليرة ونصف تركية، أي ما يعادل النصف دولار، أي يتوجب عليه دفع تلك العربة مسافة كيلومتر كاملاً ليحظى بليراته اليتيمة، شكرته على حسن كلامه، واحترامه، وتقديمه للمساعدة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/07/29 الساعة 04:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/07/29 الساعة 04:45 بتوقيت غرينتش

لاهثاً من بضعة أكياس فيها حاجياتي اليومية لا تعدو أكثر من كونها معلبات وخضاراً رفيقة أيام العزوبية الطويلة، الوقت كان مائلاً للظهيرة، والشمس في أشدها في ذلك المخيم الكئيب المترامي الأطراف، في تلك القفار، التي ما وطئتها بشر من قبل، حتى حللنا ضيوفاً ثقال الظل على وحوش تلك القفار، التي تململت من وجودنا ورحلت.

كنت شارداً وهي الوسيلة الوحيدة حتى لا أشعر بذلك الطريق الطويل والتعب الذي بدأ يتسلل لمفاصلي، نتيجة التراخي والكسل الدائم، وإذا بصوت طفولي فاجأني قائلاً: ضع أشياءك معي إن أحببت، مجاناً بدون مقابل.

لم ألقِ بالاً لكلماته بالقدر الذي رحت أتأمل فيه، إنه ذلك الغلام ذو الربيع التاسع، كان رثَّ الثياب متعب الوجه، غائر الخدين، مغبر الملامح، وقد أكسبته الشمس الحارقة بشرة سمراء تخفي ملامحه الأصلية، مبتسم طوال الوقت، تخال لك تلك النظرات التي يرسلها بأنه يشعر بالرضا التام عن نفسه وعن وضعه في الوقت الذي كان فيه أشد الرجال يتململون من واقعهم اليومي ومن شظف العيش.

كان يدفع عربة صغيرة معدنية من تلك التي تستخدم في أعمال البناء، فيها تلة صغيرة من الأكياس التي تحوي مواد غذائية مبتاعة من مراكز الخاصة باللاجئين في المخيم، كان متجهاً إلى الحي التاسع مقابل ليرة ونصف تركية، أي ما يعادل النصف دولار، أي يتوجب عليه دفع تلك العربة مسافة كيلومتر كاملاً ليحظى بليراته اليتيمة، شكرته على حسن كلامه، واحترامه، وتقديمه للمساعدة.

استرسل في الكلام لوحده، كأنه أدرك حسي الفضولي، وتجنباً لسيل أسئلتي: والدي قتل في الحرب هنالك في جبل الأكراد في ريف اللاذقية، ولجأنا إلى تركيا، وصل بنا المطاف إلى المخيم هذا، المساعدات المخصصة لنا تكفي، لكن كان يتوجب علينا العمل لأجل توفير بعض المستلزمات غير المدعومة هاهنا، وعدت أمي بأني سأكون أباً لإخوتي، ولن أجعلهم يحتاجون شيئاً، أو أن يمدوا يدهم لمخلوق، عار عليَّ أن أعود بدون عشر ليرات يومياً.

أخبرني بأنه يتوقف عن العمل يومياً حالما جمع ليراته العشر، ويعود أدراجه لخيمته، بالنسبة لدراسته عندما سألته عنها، تقهقرت دمعة غادرة، وتدحرجت على وجنته وألهبتها، قال بأن أمه تعلمه كل الذي بمقدورها أن تعلمه إياه، بالنسبة لطموحه الحالي لا يتعدى تأمين مستلزمات أهله، أما المستقبلي، فهو يتمنى أن يحمل إخوته عائداً إلى دفء بيتهم في ريف اللاذقية، وأن تنتهي محنتهم، وتزول بزوال الحرب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ذ

تحميل المزيد