يلحظ القارئ لهذا التاريخ الإسلامي على مر الدهور والليالي والأعوام أن الله هيَّأ لهذه الأمة علماء أمناء يخشون الله في كل كبيرة وصغيرة، ولا يخافون الطغاة الظالمين، وهم على الله متوكلون.
ولقد تربى في ظل العقيدة الإسلامية نماذج من البشر يحسبهم المرء أنهم جبلوا من طينة غير تلك الطينة التي جبل منها سائر الخلق الإنساني، نماذج آمنت بإله واحد لا شريك له، وأن الأمر كله بيده، فعاشت للحق، وتمسكت به، وصبرت عليه، وجاهدت الباطل، ونهت عنه، وتحملت تكاليفه العسيرة برضا وطمأنينة؛ لأنها تعلم حق العلم أن العطاء من الله كبير (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).
ولقد كان كثير من علماء السلف والخلف الصالحين من المسلمين من تلك النماذج الفذة، قد ظلوا في يقظة دائمة تجاه الحقوق والواجبات التي يتطلبها منهم الإسلام، فارتبط لديهم الفكر بالعمل والقول الصالح بالفعل الصادق، وضربوا أروع الأمثال في التلازم بين الفكر النظري والتطبيق العملي، وهم في ذلك يستوحون روح هذا الدين الذي يرسم الأفق الأعلى للحياة، ويطلب من معتنقيه أن يتجهوا إليه، ويحاولوا بلوغه، ولكن لا بأداء العبادات فحسب وإنما بالتطوع للقيام بما هو أعلى من العبادات وأشق منها، فاستحال الإسلام فيهم نماذج إنسانية تعيش، ووقائع عملية تتحقق وتترك آثارها في الحياة.
ومن ثم كان التاريخ الإسلامي مليئاً بصور من البطولات الحية التي سجلها علماء السلف الصالح في شتى مناحي الحياة.
مواقف خالدة ممن فقهوا العبادة
ولعل أروع هذه البطولات تلك المواقف الخالدة التي سجلها العلماء من الأمراء والحكام الذين خرجوا عن جادة الأمر، وغرتهم الحياة الدنيا، فاتبعوا أهواءهم حرصاً على الحكم والسلطان، فقد التزم أولئك العلماء بنصحهم وتصويبهم وصدهم عن الظلم وتبصيرهم بالعاقبة، ولم تأخذهم في ذلك لومة لائم؛ لأنهم امتثلوا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما روي عنه: عن كعب بن عجرة، قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن تسعة خمسة وأربعة أحد العددين من العرب والآخر من العجم، فقال: اسمعوا هل سمعتم أنه سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد عليّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعِنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو منّي وأنا منه وهو وارد عليّ الحوض".
فخافوا أن ينزل الله عليهم سوط عذاب، ويحشرهم مع الظالمين، ومن ذلك ألزموا أنفسهم هدي النبي عليه السلام، فلم يتركوا ظالماً يتعدى حقوق الله، متجبراً في الأرض إلا وقفوا في وجهه، وقالوا ما يرضي ربهم، وإن أسخط الناس عليهم.
ومواقف علماء السلف الصالح من الحكام الذين بدر منهم الانحراف في العقيدة والسلوك، ودخلوا مداخل الظالمين بفسقهم كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال:
الحسن البصري
لما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق، وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهداً بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إلي بالأمر من أمره، فأنفذ ذلك الأمر، فما ترون؟
فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تقية، قال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟
فقال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله! إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة، إن تعص الله فإنما جعل الله السلطان ناصراً لدين الله وعباده، فلا تركبن دين الله وعباده لسلطان؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
العز بن عبد السلام
وعندما حالف الملك إسماعيل الصليبيين وسلم لهم صيدا وغيرها من الحصون الإسلامية، وذلك لينجدوه على نجم الدين بن أيوب ملك مصر، أنكر عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء آنذاك هذه الفعلة، وحاسب الملك عليها من على المنبر يوم الجمعة، وذم الملك وقطع الدعاء له من الخطبة، فأخبر الملك بذلك، فورد كتابه بعزل ابن عبد السلام عن الخطابة واعتقاله ومنعه من الإفتاء في الناس، ثم بعث إليه الملك يعده ويمنيه.
فقال له الرسول: تعاد إليك مناصبك وزيادة، وما عليك إلا أن تنكسر للسلطان، فما كان جواب الشيخ إلا أن قال: والله ما أرضاه أن يقبل يدي، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ.
وقد أبدى العلماء المسلمون، وإلى أمد غير بعيد، حساسية فائقة تجاه الحكام باعتبارهم يتحكمون بمصير الأمة، فلم يتهاونوا معهم إذا ما بدر منهم أدنى تقصير أو تفريط أو انحراف، بل كانوا يتصدون للفساد من بدايته بالحكمة والموعظة الحسنة حيناً، والتعنيف والترهيب حيناً آخر، وكان لهذا النهج دور كبير في الحد من طغيان الحكام وإيقاظ ضمائرهم والحفاظ على جماعة المسلمين من الانحراف المهلك، الذي لم تقع فيه إلا حين رفع العلماء أيديهم، وتراجعوا عن واجباتهم ومسؤولياتهم الشاملة، وحصروها في إطار العبادات والفرائض والتفكير المجرد، واستسلموا وأسلموا أنفسهم لسلاطين جائزين تكبروا في الأرض بغير الحق، واتخذوا سبيل الغي سبيلاً.
والحالة هذه فإنه ليس أمام علماء المسلمين خاصة والأمة عامة إلا أن تسعى جاهدة لنصح أولئك الحكام؛ (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).
فاللهم لا تجعلنا ظالمين منقادين واجعلنا بالحق حاكمين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.