قهوتي وغربتي

بعد انتظار طويل دام شهرين تقريباً لرؤية العرس المرتقب الذي لطالما حلمنا برؤيته، اكتست إسطنبول بالثلج، وارتدت ثوبها الأبيض ذا الإكليل المزخرف، لك أن تتخيل تساقط الثلوج وأنت تقف على مرتفع وترتجف من شدة البرد وروعة المنظر، لك أن تطلق بصرك لإبداع الخالق وإتقانه، يا الله كم هو منظر بديع حينما تنظر إليه من خلف النافذة

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/12 الساعة 02:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/12 الساعة 02:35 بتوقيت غرينتش

بعد انتظار طويل دام شهرين تقريباً لرؤية العرس المرتقب الذي لطالما حلمنا برؤيته، اكتست إسطنبول بالثلج، وارتدت ثوبها الأبيض ذا الإكليل المزخرف، لك أن تتخيل تساقط الثلوج وأنت تقف على مرتفع وترتجف من شدة البرد وروعة المنظر، لك أن تطلق بصرك لإبداع الخالق وإتقانه، يا الله كم هو منظر بديع حينما تنظر إليه من خلف النافذة، وأنت تحتسي كوب القهوة التركية الصنع.

ففي الرشفة الأولى ارتسمت صورة أمي وهي تعد القهوة في أيام الشتاء وقت العصر، ولكن يحلو منظر تلك القهوة في الرشفة الثانية، حينما تتجلى صورة أبي وهو يحتسي كوب القهوة متكئاً على ذلك الكرسي القابع في أقصى زاوية الحديقة المزينة بأنواع الزهور؛ لتفوح تلك الياسمينة عبقاً وكأنها ريح من الجنة، وأقصى اليسار الأرجوحة التي أعدها أبي من حبال وقطعة من الخشب، فلطالما تأرجحنا عليها، ولكن بعد سقطات متتالية، وكأنها تعلمنا أن علينا أن ننهض بعد كل سقوط حاملين معنا آمالنا وأحلامنا المرجوة من الله بأن تتحقق، وعند الرشفة الثالثة تكتمل الجلسة بحضور إخواني ليزيحوا عن كاهلهم متاعب تلك الحياة وأحمالها إلى الجنة التي خلقت بعيون أمي وأبي، وعند الرشفة الرابعة تسقط دمعة في كوب القهوة؛ لتمتزج مرارة الحياة بمرارة القهوة لتخلق ألماً حاداً في منتصف القلب، يشعرنا بأن قلوبنا حبيسة الأضلع، وهي تنادي "أطلقوا سراحي.. أعيدوني إلى حضن أمي وابتسامة أبي".

ذلك المزيج الذي تكون في كوب القهوة ليس شراب اليأس، فمن دروس الحياة عليك أن تؤمن بأن بعد كل عسر يسرين، وأن الساعة الأشد ظلمةً هي الساعة التي تسبق الفجر، وأن الله ما منع عنك شيئاً إلا لخير قد خبأه لك من وراء حجب، فكم احتسينا مرارة الحياة لنتجاوز بعدها الصعاب ونخرج إلى النور من جديد.

في كل مرة أحتسي مرارة الحياة أردد: "ألم يجدك يتيماً فآوى"؟ لتأتي الإجابة حاضرة في ذهني: بلى يا رب، "ووجدك ضالاً فهدى"؟ بلى يا رب، "ووجدك عائلاً فأغنى"، بلى يا رب.. فأحمد الله وأبتسم، ففي غربتي لي رب أرحم من الأم بولدها، ولكن هل نظرت إلى الوجه الآخر من كوب القهوة؟

وأنت تعد قهوتك تذكر أن هناك أناساً قد نفد طعامهم وقد احتسوا مرارة الحياة مراراً وتكراراً حتى اعتادوا حنظلها، في شامها وموصلها وغزتها ويمنها تلالنا ما عادت تؤوينا، ومنازلنا لم تعد لنا، فهل تخيلت حالك وأنت في خيمة صغيرة ومن حولك أطفالك وزوجتك وهم يرتجفون برداً راجين من الرحمن الرحيم أن يغمرهم بعطفه ورحمته، فلا سقف يحميهم ولا أرض تقيهم البرد؟!

فلك أن تتخيل نعم الله وقد أولاها عليك، وعلى من حولك، وأنت ترتدي المعطف، وطعامك قد أُعد لك من دون عناء يذكر، وإن أصابتك نفحة برد سارعت للاختباء في فراشك الدافئ، وقد أوقدت المدفأة مسرعاً خوفاً من أن تصاب بالزكام، وأنت تنعم بهذا الدفء ارفع يديك شاكراً حامداً لنعم الله التي وهبك إياها، وتذكر أن الحفاظ على الشيء ليس أيسر من الحصول عليه، وإن آلمك قلبك على هؤلاء النازحين المقيمين خلف تلك الأقمشة، فابتهل بالدعاء لهم، فهذا أضعف الإيمان.

كثيراً ما أتذكر أبيات عنترة وهو ينشد:
لا تسقني ماء الحياة بذلة ** بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم ** وجهنم بالعز أطيب منزل

غربتنا طريقنا لتحقيق أهدافنا، فالعاقل هو مَن يحول منتكسات الحياة إلى بواعث أمل تسير به إلى أقصى الغايات؛ ليحقق أسمى الأهداف؛ ليستلذ بمرارتها تاركاً وراءه بصمة حياته الأبدية.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد