مع اقتراب الذكرى السادسة للثورة السورية، يبدو لنا من التطورات العسكرية أن مفاوضات جنيف الرابعة ستكون أقرب إلى الهزل منها للحل. وينبغي التساؤل، مرة أخرى، عن أسباب استعصاء الأزمة حتى الآن.
البعد العسكري للصراع في سوريا، ربما كان قد انتهى منذ عدة سنوات، لولا التدخل المباشر لقوى إقليمية ودولية. ولعل أبرز الاعترافات بذلك، جاء على لسان سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، حين صرح الشهر الماضي بأن دمشق كانت على بُعد أسبوعين أو 3 أسابيع من السقوط قبل تدخل موسكو. ولو حدث ذلك وسيطر الثوار على العاصمة السورية، لكان التفاوض على الإطاحة برئيس النظام أو خروجه أو محاسبته قد تَيَسَّر أو تحقق. ولكن ذلك لم يحدث.
فخلافاً لما حدث في ليبيا، حيث أنقذ التدخل العسكري للناتو، بقيادة فرنسية، مدينة بنغازي، عاصمة الثورة، في مارس/آذار 2011، أنقذت التدخلات الإيرانية والروسية، وتنظيمات مسلحة غير حكومية (سُنية وشيعية) من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان، بشار الأسد عدة مرات. إلا أن إنقاذ رأس النظام، لا يعني بالضرورة إنقاذ النظام.
فقد فقدت قوات الأسد أكثر من 100 ألف قتيل، وعدد مماثل من الجرحى والمقعَدين، وعشرات الآلاف من العسكريين الموالين للثورة، وهذا كله من جيش كان قوامه 320 ألف جندي في عام 2010. ومن ثم فإن الأسد يعتمد على أكثر من 120 ألف جندي ومقاتل من دول وميليشيات أجنبية ليسيطر على أقل من 25٪ من الأراضي السورية.
وأياً كان التعريف المختار لمصطلح "نظام" في أدبيات العلوم السياسية، فإنه لا ينطبق على الكيانات العسكرية المسيطرة على أجزاء من دمشق والساحل ومحافظات أخرى. وبعبارة أخرى، كسرت الثورة نظام الأسد عسكرياً، ودون دعم جوي لصالحها.
وقد اقتربت الفصائل الثورية من نصر عسكري عدة مرات خلال السنوات الست الماضية. كانت المرة الأولى في يوليو/تموز 2012، عندما اقتحم الثوار دمشق ليسيطروا على أكثر من 6 أحياء جنوبية وشرقية فيها، مع الهجوم على مبنى الأمن القومي للنظام، ما أسفر عن مقتل كبار قادة الأسد العسكريين، بمن فيهم وزير الدفاع داود راجحة، ونائبه آصف شوكت، ورئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار، ورئيس ما يسمى "خلية إدارة الأزمة" حسن تركماني (والخلية هي القيادة العسكرية/الأمنية العليا لمحاربة الثورة).
وأعقب ذلك تقدم الثوار في شمال غربي البلاد، وخاصة بمحافظات حلب وحمص وإدلب. إلا أن هذا التقدم توقف أواخر 2012 وأوائل 2013، مع تصعيد التدخل العسكري الإيراني المباشر مع قوات "حزب الله" اللبناني وغيرها من التنظيمات المسلحة غير السورية.
وقد دفعت قوى الثورة القوات الموالية للأسد إلى حافة الهزيمة العسكرية مرة أخرى في يوليو 2015، عندما تقدمت قوات المعارضة بثبات تدريجي على المعاقل الساحلية لبقايا النظام في ريف اللاذقية. وبعد شهرين، في 14 سبتمبر/أيلول 2015، كانت قوات المعارضة من دوما والغوطة تقترب من فصل قوات الأسد في دمشق عن شمال البلاد، عبر التحكم في التلال الاستراتيجية المطلة على العاصمة وشل الطريق الدولي السريع. ولكن التدخل العسكري والقصف الجوي الروسي في الشهر نفسه أوقف هذا التقدم.
وبالنظر في إطار مقارن، فإن الأداء والقدرات العسكرية للثورة السورية هي أفضل بكثير من حالات مشابهة أخرى ثارت ضد الاستعمار أو الاستبداد أو الاثنين معاً، بما في ذلك الثورة الليبية والقوات الثورية الموالية للجمهوريين بإسبانيا في الثلاثينات. ولكن المعضلة تَكمُن في تحويل هذا المجهود العسكري الضخم، إلى مكاسب دبلوماسية وسياسية تُقَرّب الثورة من أهدافها.
وقد أدى الفشل في ذلك إلى مزيج مذهل من الحقائق والمتغيرات والتحالفات الجديدة. وبحلول نهاية 2016، كان هناك 5 تحالفات عسكرية تعمل في الداخل السوري بأهداف متضاربة: قوات الأسد وحلفاؤها، قوات معارضة بقيادات عربية (متعددة الأعراق والمذاهب)، قوات معارضة بقيادات كردية (متعددة الأعراق والمذاهب كذلك)، جبهة "فتح الشام" (النصرة أو الجناح السوري لتنظيم القاعدة سابقاً)، وتنظيم الدولة. والأخيران -رغم قتالهم الشرس لقوات الأسد- تتنافر أهدافهما مع أهداف الثورة، سراً وعلناً.
لم تقاتل التحالفات الخمسة بعضها بعضاً فحسب، وإنما اقتتلت فيما بينها أيضاً، ويشمل ذلك الاشتباكات فيما بين قوات الأسد والميليشيات الموالية لها، وكذلك الاشتباكات فيما بين وحدات تنظيم الدولة. وبحلول مبادرة وقف إطلاق النار التركية-الروسية، ومفاوضات أستانا التي انطلقت الشهر الماضي في العاصمة الكازاخية، زادت حدة التوتر ووتيرة "إعادة التَمَوقُع" بين قوات المعارضة وجبهة "فتح الشام" وخاصة في إدلب، معقل المعارضة المكتظ بالنازحين وبضحايا الأسد والمستهدف جواً بلا هوادة من عدة أطراف دولية.
واندمجت، على أثر هذه التطورات، "فتح الشام" مع 4 منظمات محلية ناشطة في الشمال السوري؛ وهي: "حركة نور الدين زنكي"، و"لواء الحق"، و"جيش أهل السُّنة"، و"جبهة أنصار الدين"، وذلك تحت اسم "هيئة تحرير الشام". واستقطبت "التحرير" كذلك فصائل عدة من حركة "أحرار الشام"، وهو ما قدره البعض بنحو ربع قوات "الأحرار" في الشمال السوري، بمن فيهم قائد "الأحرار" السابق، هاشم الشيخ، وهو القائد الحالي "للتحرير".
وفي الوقت ذاته تقريباً، اندمجت 5 تشكيلات عسكرية أخرى -أهمها "صقور الشام"، و"جيش الإسلام- قطاع إدلب"، و"الجبهة الشامية"- إلى "الأحرار"؛ لتجنب ضمها إلى "التحرير" أو الاستيلاء على مواردها. ويترأس تحالف "الأحرار" الجديد قائدهم الحالي علي العمر.
وتعكس هذه التطورات في هياكل المعارضة حسابات موازين القوى والبقاء أكثر منها التقارب الآيديولوجي. فيرى البعض الاندماج وإعادة التموقع تكتيكاً لتقليل خطر قصف الطائرات من دون طيار والاغتيالات من الجو (في حالة فتح الشام/النصرة خاصة)، أو لتقليل احتمالات ضم فصيل إلى فصيل آخر بالقوة (في حالة "الزنكي" وغيرها). وبينما يرى تحالف "الأحرار" ضرورة تقبّل المسارات الموازية من العمل الدبلوماسي والعسكري المناهض للأسد، يرى تحالف "التحرير" أن العمل العسكري وحده كفيل بالقضاء على بقايا النظام وإخراج القوات الأجنبية الموالية له.
ورؤية الطرفين تعكس مآزق استراتيجية مرت بها معظم القوى الثورية المسلحة في العصر الحديث، ليتجاوزها بعضهم ويفشل آخرون. مأزق "الأحرار" وكذلك فصائل " الجيش السوري الحر" الرئيسي، يتمثل في عدم القدرة على استثمار المكاسب العسكرية في المفاوضات الدبلوماسية، وذلك في ظل لا مركزية القيادة العسكرية، وآيديولوجية مُتَبنّاة (في حالة الأحرار) بها أبعاد طائفية ورجعية، وعدم اتفاق بقية الفصائل -ذات الثقل العسكري- على تَقَبل المسارين، وعدم وجود خطط واضحة على المديَيْن المتوسط والطويل.
وأما تحالف "التحرير"، فلديه مأزق أكبر. فبعيداً عن تصنيف قوته الضاربة (فتح الشام/النصرة سابقاً) كمنظمة إرهابية (فالدول قد تتفاوض وتتفق وتتصالح وتتحالف مع الإرهابيين لو أن لديهم قوة عسكرية ومرونة سياسية كافية كما حدث في حالات أخرى)، وبعيداً عن أن قدراتهم العسكرية لا ترقى لطموحاتهم (فالمفاجآت قد تحدث، وأطراف ضعيفة عسكرياً ومنبوذة دولية انتصرت في حالات أخرى).
وبعيداً عن شدة التطرف الآيديولوجي والطائفية المقيتة ورفض أغلبية القوى الثورية والسوريين عموماً لهما، فإن مأزق "التحرير" عملياً هو عدم وجود استراتيجية قابلة للتنفيذ لديه، رغم أدائه الميداني الذي يُثبت مراراً وتكراراً مدى صلابته وبأعداد قليلة وعتاد غير متطور نسبياً. فمن مسلمات الاستراتيجية -كما يوضح أحد أهم منظريها الجنرال الألماني كارل فون كلوزفيتز- أن الحرب هي إحدى أدوات السياسة، وأن الجهد العسكري يجب أن يخدم الهدف السياسي، وإلا صار ذلك الجهد هو بعينه "الضوضاء قبل الهزيمة"، كما يوضح منظر استراتيجي من قارة وقرن آخرين وهو القائد الصيني صن تزو.
وفي ظل الأولويات والأهداف المتضاربة بين القوى الإقليمية، وشبه انعدام الضمانات والالتزامات الجادة بوقف إطلاق النار، ورغبة بقايا النظام في إفشال أية عملية تغيير ولو إصلاحية تدريجية، فينبغي للمعارضة، بيسارها ويمينها، إعادة التفكير في استراتيجيتها ومواردها ومركزيتها وصراعاتها الداخلية؛ لأن المرجح في ظل معطيات الحالية هو استكمال جولة أخرى من الصراع المفتوح في السنة السابعة، مع الأسف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.