عن الثنائية المفقودة: المعرفة والتنمية

أضحى التصدي للخَطب المتفاقم واجباً كفائياً، مما يقتضي التركيز على بناء القيادات والنظم والمؤسسات؛ لتمنح المجتمعات قدرات أساسية هي: القدرة على الثبات وامتصاص الصدمات، والقدرة على التكيف والتعافي منها

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/05 الساعة 01:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/05 الساعة 01:12 بتوقيت غرينتش

تمر العديد من المصطلحات في عالمنا العربي بتحولات في الدلالة من زمن لآخر، لتبقى شاهدة على تغيرات مجتمعية عميقة، سريعة، ومتلاحقة، كما هو الشأن لمصطلح الثقافة التي تدل اليوم في أوطاننا على السلوكيات والعادات أكثر مما تدل على العلوم والمعارف المتنوعة، حتى صارت السلبية والاتكالية والاستقلال من الحياة والمسؤوليات المختلفة ثقافةً وميزةً غالبة لدى العديد من الفئات المجتمعية، بل حتى لدى النخبة العربية نفسها؛ لتتقاطع هذه الأخيرة مع بقية مكونات المجتمع في ثقافة التبرير وعدم الشعور بالمسؤولية والعيش في الماضي والإحساس بالظلم ولعب دور الضحية وغيرها من السلوكيات، التي عطّلت التنمية في مجتمعاتنا والتي هي بدورها للأسف، تفتقد في أغلبها إلى مشاريع مجتمعية ترتقي بواقعنا كشعوب عربية، استحوذت على أكثر من ثلثي الحروب والصراعات الدائرة في العالم اليوم، وطبعاً بذات النسبة على كمية الدماء المنهمرة، حتى علا التساؤل: لماذا العالم العربي دون غيره؟ ولعل الإجابة في الطباع الغالبة والموجِهة لنا في خلافاتنا مع الآخر والتي بلا شك تحتاج تقويماً وتعديلاً، وها هو النص القرآني يشخص هذا الطبع بقوله تعالى في الآية 97 من سورة مريم: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدّاً). (1)

ولأن التوصيف أيضاً تحول إلى ثقافة العديد من الباحثين عن المتعة، أو ممن يتفنون بممارسة الاستنماء الفكري، معتقدين بذلك أنه يسقط عنهم المسؤولية التاريخية والأخلاقية تجاه مجتمعاتنا التواقة للتنمية، سنحاول خلق الاستثناء والتحول من الوصف إلى الفعل.

مما لا شك فيه أن الوضع في أوطاننا يتسم بالتخلف الاقتصادي بل بالتعقد والتمدد، والغموض والتقلب والتذبذب، وإذا كان احتلال فلسطين أُمّ المصائب وعمدة الأزمات وعميدها، فإن الوجع امتد إلى العراق وسوريا واليمن والصومال وليبيا، وأخواتها، مثقلاً من تبعات عجز المنظومة الدولية عن إيجاد الحلول ومعالجة أسباب الأزمات المتفاقمة.

لقد أضحى التصدي للخَطب المتفاقم واجباً كفائياً، مما يقتضي التركيز على بناء القيادات والنظم والمؤسسات؛ لتمنح المجتمعات قدرات أساسية هي: القدرة على الثبات وامتصاص الصدمات، والقدرة على التكيف والتعافي منها، والقدرة على التغيير واستئناف البناء والتنمية لتحقيق الرخاء والازدهار والأمان.

ولا ريب أن الحلم داخلنا باقٍ بمجتمع معرفة منسجم مع منظومات متعلمة تشكل معالم هوية الغد الأفضل، وتبقى كلمة السر في تحقيق كل ذلك هاءات متتالية، هي همة متقدة وهمّ شاغل وهوية أصيلة، ولنبدأ بهمة عالية، على أن يكون البدء بما أمكن، أياً ما كان صغره، فهكذا علمتنا مراحل بناء الإنسان، أولُها التدرج في الخلق نطفةً، ثم علقة ثم مضغة، إلى اكتمال الخلق؛ وثانيها الاحتضان في بيئة مساندة في المراحل الأولى من النشوء والارتقاء؛ وثالثها الاستقلال عند بلوغ الأشد.

ويمكن أن يكون البدء في صورة برامج تنفذها مؤسسات حاضنة مقتدرة، إلى أن يرتقي البرنامج إلى المأسسة، بعد أن يصنع قصص نجاح تبث الحياة في القلوب الميتة والأمل في النفوس المتخشبة، وهكذا تكتسب المهارات وتخاض المسارات، ويمكن التآزر بين البرامج والمجتمعات تحقيقاً للتكامل ورعاية للنواة المؤسسية في انتظار بلوغ الأشد.

لقد تعب شبابنا وشاباتنا من أسطوانات التوصيف المشروخة، فيما الاحتياج إلى العمل على هُدى من الرؤية المتوخاة يزيد ويكبر، خاصة ذلك العمل على محاور ذات آثار طويلة المدى في التمكين الاقتصادي والاجتماعي للناس في الأوساط الهشة، بما يضمن أن تتقوى القاعدة المعرفية والطاقة الذاتية للمجتمع نفسه نحو المزيد من التميز، ويمكن تحقيق ذلك عبر البحث والتفاكر والنشر، فلطالما كانت البحوث والندوات وحلق التفكير وعصف الذهن والأوراق الموسمية، المعالِجة خاصة لقضايانا الإنسانية والإنمائية الماثلة في طريق مجتمعاتنا من كافة المنظورات، رافداً مهماً يلامس احتياجنا ويتحسس آلامنا وآمالنا، ولكنه للأسف أصبح المنظور الغائب حالياً، وهو المنظور الأصيل الأمين والرؤية الصحيحة، رغم كثرة المعاهد والجامعات وتعدد المؤتمرات.

ولمجتمع فاعل فإن بناء القدرات والتدريب والتمهير وتطوير المهارات الحيوية مطلب مُلحّ جداً، فمن القدرات والمهارات المستجد على الساحة، ومنها ما يمكن أن نحييه من تراث الإنجاز، ونجاح الأجداد ليستعين به المستفيدون، ويصلب به عود العاملين في مجالات الإدارة الاستراتيجية لمؤسسات المجتمع المدني، بما يعزز قدرات القيادة ودرء مخاطر الأزمات وتعجيل وتحسين التعافي منها، وإدارة مشاريع التنمية، وهذا لا يتأتى إلا بتنمية وتمكين القيادات الشابة؛ ليسلك بها مسار النمو في الجو العاصف ونمذجة الحلول والمشاريع الإبداعية للنهوض بالمجتمعات المأزومة، إعلاءً لسقف التنمية، بمهارات ومناهج الإنجاز وتحقيق المقاصد التنموية والحوكمة المرشدة والعمل الجامع لتنمية المشترك، بعيداً عن استدراج مجتمعاتنا (العربية عموماً ومجتمعنا الجزائري خصوصاً) إلى الخوض في مسائل الاختلاف اللغوي والعرقي، ببساطة لأن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا.

سيبقى التشاكس والتدافع سارياً في مجتمعاتنا بمكوناتها المختلفة، وما لم نعِ أهمية المعرفة في تحقيق التنمية المستدامة، ستتحول جامعاتنا إلى روضات للكبار، وإداراتها إلى مطابع للشهادات، وما لم نعِ أهمية التكامل بيننا كدول سواء في الفضاء المغاربي أو هنالك في الفضاء الخليجي أو بالهلال الخصيب؛ حيث فلسطين المغتصبة، سنبقى شعوباً تركض كالوحوش باحثة عن ذاتها.

وعلى ذكر المغرب العربي، فإنني مدين بكل حرف كتبته للأستاذ المنظّر منصور بن الفتى، الموريتاني مهندس الخير والمشاريع التنموية في العالم الإسلامي؛ حيث تجمعنا هذه الهموم مصحوبة بآمالنا المشتركة في التصدي لها، وكم هي كثيرة وعديدة الطاقات العربية والمغاربية، خاصة ممن امتدت أفكارها لتحقيق النفع والرفع والدفع للشعوب المكلومة، والأمل معقود على منصات ولو كانت افتراضية تجمعنا على عمل الخير وخير العمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لُدّاً: أي أهل لدد وجدل بالباطل، لا يقبلون الحق. واللدّ: شدة الخصومة، كما ورد في أغلب التفاسير.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد