تعتبر الديمقراطية نفسها أنها "حكم الأكثرية"، وبالتالي فهي ليست حكم الأصلح أو الأكفأ، خاصة أنه لن ترى عاقلاً يقول لك بأن الأكثرية تعني النخبة، والمحصلة أن الشعب سوف يختار، وأكثر الشعب عوام لا خواص، خاصة في ظل مقاطعة كثير من النخب لهذه العملية أحياناً، ولهذا يقول بسمارك مؤسس الإمبراطورية الألمانية: "إذا كانت أولى قواعد الديمقراطية هي شخص واحد يساوي صوتاً واحداً، فإن عشرة حمير أفضل من تسعة مثلهم بسمارك".
يقول الليبرالي باسكال سالان: "فإذا كان اتخاذ قرار جماعي مرهوناً على حصوله على تأييد أغلبية الأصوات (أو على نوع من الأغلبية المتخصصة)، فإن معنى هذا فقط أننا متيقنون من عدم حصولنا على أغلبية أخرى قادرة على اتخاذ قرار مناقض للقرار المتخذ، فقاعدة الأغلبية إذن هي تعبير عن حتمية وجود الانسجام في المسلسل التقريري، ولكنها لا تستند على أي أساس أخلاقي أو منطقي".
وقد ضرب باسكال سالان مثالاً رائعاً بيَّن فيه أن مبدأ الأكثرية هذا مبدأ غير عادل، قد يتحايل على القانون من أجل هضم حقوق وحرية الأشخاص، فقال: "لنتصور -على سبيل المثال- أن هناك قرية يسكنها 100 من الأفراد، وتحاول عصابة مكونة من 51 لصاً تجريد 49 من سكان هذه القرية من أموالهم. ففي دولة القانون سيكون من المشروع التصدي لهذا النوع من الخرق للحقوق الفردية الذي تتعرض له فئة من السكان، وإلى جانب هذا هناك طريقة أخرى مفتوحة لهذه العصابة من اللصوص وهي أن يصلوا إلى الحكم عن طريق انتخابهم ديمقراطياً، وسيكون كافياً بالنسبة إليهم أن يصوِّتوا على تشريعات وضرائب تساعد على تجريد الأفراد من أموالهم وأمتعتهم؛ ليصبح هضم الأموال أمراً قانونياً.
ومن الواضح أننا حين نقول قانونياً، فإننا لا نقصد بذلك مشروعاً، وأن القول بأن سلطة ما انتخبت ديمقراطياً لا يعني أن الأمر يتعلق بطريقة مشروعة تحترم حقوق الآخرين، ولعل هذا هو ما يجعل من غير الممكن اعتبار الطابع الديمقراطي لسلطة ما بمثابة المعيار المطلق. وهناك نمط آخر للتقييم يمكن اعتباره أعلى من هذا، ويتعلق الأمر بمشروعية العمل العمومي أي مطابقته للقوانين الطبيعية للأفراد".
إذاً ليست الانتخابات الديمقراطية المعاصرة معبرة بدرجة كافية عن إرادة ورغبة الشعب، فعلى سبيل المثال جاءت نتيجة الاستفتاء الأخير في بريطانيا بأغلبية بسيطة مرجحة للخروج من الاتحاد الأوروبي (51% موافقة، مقابل 48% غير موافقة)، وسرعان ما أفاق الجمهور على هول ما فعل، فبدأت الاعتراضات والمراجعات، خاصة أن بريطانيا كانت العضو المدلل الذي حصل على امتيازات مميزة من الاتحاد الأوروبي، كالإعفاء من الفيزا الشاملة للاتحاد (شينغن) والإعفاء من العملة الموحدة (اليورو) وعدم الخضوع للبنك المركزي للاتحاد الأوروبي، ورسم سياستها النقدية بنفسها وبحرية تامة.
لكن وقع الناخب البريطاني في فخ صندوق الانتخابات بأغلبية ضئيلة جداً، فالكتلة المرجحة كتلة صغيرة نسبياً (بضع مئات من الآلاف)؛ لأن مجموع الذين صوَّتوا ممن يحق لهم المشاركة كان 30 مليوناً بنسبة 71 % تقريباً من حجم من يحق لهم التصويت، أي أن هناك نحو 14 مليون صوت ضد الخروج (48%)، وهناك نحو 12 مليوناً لم يذهبوا للتصويت!.. هذه ظاهرة كارثية في الديمقراطيات الغربية بشكل عام.
أيضاً الرئيس الأميركي باراك أوباما حصل على 52.9% من أصوات الناخبين في عام 2008، وعلى 51.1% من أصوات الناخبين في عام 2012، إلا أن هناك نحو 80 مليون ناخب أميركي يحق لهم التصويت ولم يشاركوا في الحالتين.
وكذلك الانتخابات الأخيرة بين ترامب وكلينتون، فوفق النتائج التي نشرتها الصحف، حصل ترامب على 53% من أصوات الفئة العمرية من 45 إلى 64، في مقابل 44% لمنافسته كلينتون، وتفوق أيضاً في الفئة العمرية الأعلى وهي ما فوق الـ65 عاماً، وحصل على 53% من مجموع أصواتها، في مقابل 45% لمنافسته.
بينما تفوقت منافسته في الفئات الأصغر، وحصلت على 55% من أصوات الفئة العمرية من 18 إلى 29 ، في مقابل 37 لمنافسها ترامب، كما حصلت على 50% من أصوات الفئة العمرية من 30 إلى 44 عاماً، في مقابل 42% لمنافسها.
وكذلك حصل الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند على 51.6% في الانتخابات الفرنسية عام 2012، أيضاً بعدم حضور نسبة كبيرة ممن يحق لهم المشاركة!
يقول المحللون: "الظاهرة واضحة المعالم، أن هناك (كتلة حرجة صغيرة نسبياً) في الجمهور المصوت في الديمقراطيات الغربية الحديثة هي التي تقرر مصير البلد كاملاً، وليس هناك (رأي أو ثقل) لتلك الكتلة الثانية (الكبيرة) المصوّتين ضد، التي كان لها رأي مخالف، وأيضاً الذين امتنعوا (والفريقان هما الكتلة الأكبر من المواطنين) فعن أي ديمقراطية نتحدث؟!
ثم ماذا عن الكتلة الكبيرة التي هي أكثر من الثلث بقليل التي يحق لها التصويت ولم تفعل!.. بعض الدول الأوروبية في الشمال وتركيا تفرض ضريبة على المواطن الذي لا يشارك في الانتخابات العامة، لكن هذه العملية غير معممة في أغلب الديمقراطيات الغربية، ولا يفضلها السياسيون على كل حال!".
لذلك يقول الليبرالي الشهير جون ستيوارت ميل: "إن الحقيقة إما أن تكون مع الأغلبية في المجتمع أو تكون مع الأقلية، أو يكون مع هؤلاء جزء منها ومع أولئك جزء آخر".
ويقول الشيخ محمد بن شاكر الشريف: "عند اختلاف الرؤى في النظام الديمقراطي ينظر إلى الأغلبية على أنها ممثلة للإرادة الشعبية العامة، وهذا يعطيها صفة العصمة أو صفة الصواب، بينما يلتصق برأي الأقلية صفة الخطأ، لكن من حق الأقلية أن تحاول ضم من تستطيع إلى صفوفها والقبول بأطروحاتها لتحقيق الأغلبية لتلك الآراء، حتى تتحول من صف الرأي الخاطئ إلى صف الرأي الصواب، ويحدث العكس ويتبدل الحال للأغلبية السابقة، وهذا بدوره ينشئ صراعاً كبيراً بين فئات الشعب في محاولة ضم أكبر عدد للصفوف، لتكتسب رؤيتهم العصمة ولتكون معبرة عن الإرادة العامة، مع ما يصاحب ذلك من كل الظواهر التي توجد في ظل الصراع.
وهكذا يمر الحق والصواب بدورات متتالية متعاقبة، فما يكون اليوم صواباً قد يصبح بعد حين خطأ لا لشيء سوى أن القائلين به تمكنوا من استقطاب شريحة كبيرة من الناس للموافقة عليه، وما كان بالأمس صواباً قد يصير خطأ لا لشيء سوى أن القائلين به لم يستطيعوا المحافظة على الأغلبية التي كانت معهم، وذلك بغض النظر في كلا الحالين عن مدى صواب تلك الأقوال أو خطئها من الناحية الحقيقية، ثم هذه الأغلبية قد تصبح أغلبية مستبدة أكثر من أي نظام استبدادي، وليس هناك من وسيلة ديمقراطية لإيقاف هذا الاستبداد إذا استطاعت أن تحافظ الأغلبية على وضعها في المؤسسات السياسية، ويظهر هذا بجلاء في الشعوب التي تتكون من أكثر من عِرقية، فالعرقية ذات الغالبية العددية على ما سواها من العرقيات الأخرى مؤهلة للاستبداد، في حين لا تملك العرقية الأخرى أية وسيلة ديمقراطية لمنع هذا الاستبداد، ويبقى الطريق المفتوح هو الصدام مع الأغلبية أو التعاون مع أعداء الوطن، وتصبح المحافظة على حقوق الأقليات العرقية مرهونة بالحالة الأخلاقية للأغلبية".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.