مشاغلنا.. من وراء الزجاج

نظرتُ إلى الخارج، السماء مظلمة يضيئها من حين لآخر برق خفيف، والأمطار ما زالت تهطل بغزارة. التفت من جديد إلى جارتي التي لازمت الصمت. لا أدري أكان ذلك لعدم تفاعلي معها، أم أنها سافرت معي في رحلتي الخيالية وفزعت لنهايتها، فأيقنتْ مثلما أيقنتُ.. أنّ هذه الدنيا لا تساوي عند اللّه جناح بعوضة!

عربي بوست
تم النشر: 2016/03/08 الساعة 06:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/03/08 الساعة 06:20 بتوقيت غرينتش

ما إن وصلت محطة الحافلات، حتى بدأت قطرات المطر الرقيقة تتساقط، وتتسارع شيئاً فشيئاً. احتميت بسقف كشك صغير. وقفت امرأة في الخمسين من العمر بجانبي. بعد التحية سألتني عن توقيت الحافلات. أجبتها متأسفة: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.

كنت أتأمل نزول المطر، مستمتعة، على غير عادتي في مثل هذا الظرف أحاطني سكون عميق غريب، رغم كل الضجيج.. أطلقت العنان لأفكاري، كانت خواطر أقرب إلى أحلام اليقظة. لكن ذلك لم يدم طويلاً. خرقت تلك المرأة "الهدنة" من جديد، وأخذت تحدثني عن البضائع في السوق، عن غلاء الأسعار، عن أبنائها.

كنت أحاول جاهدة أن أتفاعل معها، وبداخلي رغبة جامحة في الاستماع لصوت المطر وهدير الرعد الخجول، فقط لا غير..

لم تكن الحافلة مكتظة لحسن الحظ. وجدت بسهولة مكاناً شاغراً قرب النافذة. جلست بسلام وأخذت أتأمل الناس في الخارج: بعضهم يركض والآخر آثر أن يبقى أمام واجهات المحلات المغطاة إلى أن تنقشع السحب.

عربات مسرعة في كل الاتجاهات، سائقون حانقون، يسبون صاحب السيارة الذي أوقفها في منعرج (عمداً أو سهواً).. يالها من فوضى..

أسندت رأسي إلى الكرسي ونظرت أمامي، كانت هناك امرأة كهلة جالسة مع ابنها ذي العشر سنوات. كان الطفل يتمتم بعبارات غير واضحة ويشير بيده كلما لمح محل ألعاب أو مرطبات.

أما والدته فكانت تبدو منهكة، شاردة، تنظر إلى النافذة هائمة بوجه خال من أية تعابير. لا أدري لِمَ كنت متيقنة بأنها لم تكن ترى شيئا مما يدور في الخارج، بل تنظر إلى انعكاس صورتها على الزجاج، تحدق في وجهها الشاحب وعينيها المرهقتين. ثم تنظر إلى الزجاج لتخترق بنظراتها الحائرة ما وراءه من شبكات معقدة رسمتها خلاياها العصبية.

بدا كاهلها مثقلا بالأعباء. حاولتُ الغوص معها في بحر أفكارها، علِّي أفك معها بعض الشفرات وأواسيها ولو بمجرد النظرات..

هي تفكر في الوضع الراهن في البلاد: مشكلة البطالة.. عودة المضاهرات.. الإرهاب..
الأزمة الاقتصادية أيضا تشغل بالها، الإعلام المضلل، الملف الأمني ومحاسبة قتلة الشهداء..
ربما كانت متأسفة بسبب ما تسمعه من نقاشات عقيمة حول صراعات الأحزاب والإيديولوجيات وتهميش الأولويات..

ربما كانت تفكر أيضاً في القصف الروسي للأراضي السورية، بضحايا مضايا ودير الزور، باللاجئين السوريين المشتتين في كل مكان، بالذين غرقوا بالبحر..

تفكر في الحصار الإسرائيلي لغزة، بالأقصى الذي يريدون اقتحامه في كل مرة، بالأسرى الفلسطينيين، بـ"محمد القيق" المضرب منذ أسابيع عن الطعام، تفكر بحال المسلمين في كل مكان: بالوضع الصعب في العراق، بحال اليمنين والليبيين.

هواجسها لا تنتهي..

هي تشعر بالقهر والعجز، وهو ما يفسر(ربما) كل هذا الإرهاق..

قطع حبل أفكاري اللامتناهية صوت أنثوي مألوف: "ها قد ركبنا معا في نهاية المطاف! أتعلمين أن زوجي يعمل في الشركة المصنعة لهذه الحافلات؟ أترين ذاك العمود قرب الباب؟ إنهم يأتون به من مدينة كذا، في شاحنات كبيرة".

نظرت إليها مبتسمة، كان قدرنا أن نلتقي مرتين وأن تدخل قوقعتي مرتين.. لاحظت كم كانت تشبه المرأة الشاردة أمامي، فعدت أتخيل ما يجول بخاطرها، ولكن بطريقة مختلفة تماما، بعد أن اقترنت صورتها في ذهني بصورة جارتي:

لقد نسيت الملابس معلقة في فناء البيت، لقد تبللت بالتأكيد، وسيتطلب تجفيفها يوما أو يومين آخرين.

احتارت ماذا ستعد للعشاء، وماذا ستطبخ غدا في الغداء! ياله من تمرين يومي ممل. أسئلة قد تبدو لوهلة سخيفة ولكنها تستنفذ طاقاتها، وتحدد مصير عائلة بأكملها..

تذكرتْ والدتها العجوز التي لم تزرها منذ أسبوع لكثرة المشاغل.. تذكرت المسلسل التركي التي لم تشاهده منذ يومين، كانت تتمنى ألا تكون قد فاتتها أحداث كثيرة.. تذكرت ابنتها التي تريد شراء فستان سهرة فاخر لحظور زفاف صديقتها، من أين لها بالمال؟ زوجها لم يسدد بعد فاتورة الماء والكهرباء.

هي تفكر أيضاً في بيع مصوغها ونصيبها من الإرث كي تشتري قطعة أرض تبني فوقها مسكناً شاسعاً. لكن يجب أن تطلب قرضاً من إحدى البنوك حتى تتمكن من بناء الطوابق الثلاثة، واحد لها وواحد لكل من ولديها.

ابنتها ستتزوج من جارها الوسيم الثري، لا تدري كيف ستقنع والدته بذلك، لكنها تتمنى أن يكون من نصيبها. ثم، وأخيراً، ستنتقل لتمضي ما تبقى من حياتها في ذاك البيت الجديد، ستكون حينئذ سعيدة حتماً!

ستنظر ذات يوم في مرآة الحمام الجديدة، تحت ضوء أبيض ناصع، وستلحظ حينها خصلات شعرها الرمادية الكثيفة، وتجاعيد وجهها الغائرة التي ما عادت مساحيق التجميل قادرة على تغطيتها، ستبكي بحرقة ثم تسقط أرضا.

نظرتُ إلى الخارج، السماء مظلمة يضيئها من حين لآخر برق خفيف، والأمطار ما زالت تهطل بغزارة. التفت من جديد إلى جارتي التي لازمت الصمت. لا أدري أكان ذلك لعدم تفاعلي معها، أم أنها سافرت معي في رحلتي الخيالية وفزعت لنهايتها، فأيقنتْ مثلما أيقنتُ..
أنّ هذه الدنيا لا تساوي عند اللّه جناح بعوضة!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد