التطرف لغةً، هو عدم الثبات في الأمر، والابتعاد عن الوسطية، والخروج عن المألوف ومجاوزة الحَدِّ.. وقد عانى العالم بشكل عام، والعراق بشكل خاص، من ويلات التطرف والعنف والحروب والصراعات المتكررة في تاريخه القديم والحديث؛ ليكون المناخ الحالي متطرفاً ومغالياً في درجات حرارته أيضاً!
و"المناخ المتطرف" هو المناخ الذي يتصف باختلافات كبيرة بين درجات حرارة أحَرِّ شهور السنة وأبردها؛ لتشمل درجات الحرارة المرتفعة جداً والمنخفضة جداً طوال فتراتهما، والتي تعد أحد مظاهر تغير المناخ في العراق والعالم.
ويرى باحثون أن هذا التقلب في أحوال الطقس يمكن تسميته "التطرف المناخي" الذي ينتج عن ظروف ودورات مناخية طبيعية حدثت في الماضي وتتكرر في الحاضر وربما سوف تستمر وتتكرر في المستقبل؛ حيث يشهد الشرق الأوسط بشكل عام مناخاً متقلباً غير معتاد، فبينما أغرقت الأمطار الرعدية بغداد ودبي ومكة المكرمة في الشتاء المنصرم، لترتفع درجات الحرارة بشكل قياسي في نفس الفصل والشهر وذات العواصم.
وقد أدى ارتفاع درجات الحرارة الشديدة والمتطرفة في العراق في هذه الأيام إلى إلزام غالبية المواطنين المنازل، خوفاً من التعرض لضربات شمس قوية.. وقد وجدت بعض الشوارع خالية تماماً من المارة في أوقات الظهيرة، خاصة بعد إعطاء الحكومة عطلة رسمية ليومين، فالكل يلتزم منزله؛ ليجلس فى بيته.. ولم يقتصر ذلك على الموظف الحكومي، بل وصل إلى المزارع والفلاح وعمال البناء وأصحاب سيارات الأجرة وخلو الشوارع من السيارات في فترات الذروة، خوفاً من الأعطال الميكانيكية والبشرية!!
حيث أكدت هيئة الأنواء الجوية العراقية أن درجات الحرارة في هذا الصيف هي الأعلى منذ ما يقرب من 30 عاماً، مبينة أن "درجة الحرارة العظمى في بغداد بلغت 51 درجة مئوية، وهي أعلى من معدلاتها العامة بعدة درجات"، مبينة أن "أعلى درجة حرارة سجلت سابقاً كانت 50 درجة مئوية في عام 2012م".
ومما يزيد الأمر تشاؤماً أن صيف العراق يتصف بسيطرة العواصف الرملية على أجزاء واسعة من مدنه ومحافظاته، هذه العواصف التي تؤثر على صحة أفراد المجتمع، لا سيما الذين يعانون من أزمات تنفسية من الصغار والكبار؛ لما لهذه العواصف الرملية من تأثير على صحة الإنسان والبيئة.. وكنتيجة طبيعية لهبوب الرياح وانبعاث الغبار يلجأ الناس إلى بذل جهد استثنائي، تهدر فيه كميات كبيرة جداً من المياه، في كل منزل سكني أو دائرة حكومية أو منشأة صناعية أو تعليمية أو صحية بعد أن تهدأ العاصفة في اليوم التالي، حتى يتفاجأ الجميع بوجود كميات هائلة من الأتربة والرمال الناعمة والمقززة تتجمع في الممرات الجانبية والخلفية للمنازل والدوائر الحكومية، فضلاً عن نفاذ الغبار الناعم إلى داخل غرف المنزل والبنايات، وبالتالي تهديد لصحة ومزاج أفراد الأسرة والمواطنين.
وقد أشارت الدراسات إلى أن الحرارة المرتفعة لها تأثير على المزاج وطريقة التفكير، والقدرة على التعلم والاستيعاب، واتزان السلوك، وبالتالي على العمل والقدرة الإنتاجية، وتؤدي أيضاً إلى اضطراب المزاج والشعور بعدم الارتياح وصعوبة التحمل والصبر، وقلة التركيز والاستيعاب؛ مما يؤدي إلى زيادة حدة المزاج والاندفاعية والعصبية الفائضة، ومن ثم العنف لأي مثير حتى لو كان بسيطاً، ولولا ذلك لما تطورت وسائل التكنولوجيا الحديثة في تصنيع المكيفات بأنواعها المختلفة، وهذا ما يفسر أن أغلب الثورات الشعبية حصلت في فصل الصيف لما تحدثه الحرارة من هستيريا وثورة عند الفرد وقلة حدوثها في "السبات الشتوي"!! فمنذ أقدم العصور، والإنسان يدرك مدى ارتباطه بارتفاع حرارة الطقس، ومدى تأثيره على مزاجه وراحته النفسية والبدنية؛ لذلك اتخذ السبل كافة للوقاية من حرارة الطقس، ومنها اللجوء إلى مياه البحار أو الأنهار أو السباحة أو الاستحمام بالماء البارد.
إن الصيف سابقاً كان متنفساً للعوائل للخروج والتنزه في الساحات العامة والحدائق.. وقد قيل قديماً (الصيف "أبو الفقير")؛ حيث تكثر في هذا الفصل المحاصيل الزراعية والخيرات من الخضراوات والفواكه والثمار بأنواعها، والتي تكون في العادة متوافرة وبأسعار زهيدة ومناسبة، تمكن الفقير من شرائها… والفقير في الصيف لا يحتاج إلى الملابس العديدة كما الشتاء، والتي تكون في الغالب غالية الثمن، وليس بمقدوره شراؤها، ولا يحتاج أيضاً إلى وسائل ومستلزمات التدفئة التي تكون مكلفة مادياً في معظم الحالات، وأيضاً يتيح الصيف فرص عمل كثيرة للكسب والعمل… لكن الزمن والمناخ تغيرا كثيراً؛ ليتحول الصيف في العراق إلى "عدو الفقير"، وليس أباً للفقير، ولا يمت له بأية صلة قربى!!
في صيف العراق.. الحر الشديد وانطفاء الكهرباء المتكرر لساعات طويلة سواء في الليل أو النهار يتطلب الاستعداد للبدائل، ومنها "المولدات الكهربائية الأهلية"، وما يترتب عليها من فواتير وأجور.. وهو هَمٌّ مضاف للكثير من الفقراء ومحدودي الدخل والكسبة الذين يعيشون على ما يحصلون عليه في يومهم، وكلها هواجس ترهق كاهل الأسرة العراقية، مضافاً إليها هاجس الرعب والخوف من الإرهاب الذي ضرب كل مناطق البلاد.
هواجس، وهمومٌ، ومعاناة، وآمال، كلها على لائحة الانتظار، فلا نغالي إذا قلنا إن مستوى التوتر والقلق الذي يصاحب العائلة العراقية آخذٌ في الازدياد هذه الأيام، ولعل الأوضاعَ الأمنية والاجتماعية والاقتصادية المتدهورة في البلاد تقف في مقدمة الأسباب لنواحي هذا القلق، وجميع هذه الأمور تلقي بظلالها السلبية على نمو وتنمية العائلة العراقية على نحو سليم، وإن الوضع الذي تعيشه العائلة العراقية اليوم في معظم حالاتها هو وضع قلق ومليء بالمعاناة في ظل وعود حكومية غير قابلة للتطبيق!!
ولا يأمل العراقيون أن يتحسن وضعُ بلدهم قريباً؛ لأن الأسرة العراقية اليوم لا تحقق شيئاً من طموحها في النواحي الاجتماعية والاقتصادية وهي تنتظر ما ستؤول إليه الجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية القادمة.
العراقيون اضطروا إلى ترك جوانب كثيرة من حياتهم والبدء من نقطة أقل ما يقال عنها إنها تحت الصفر!! فالأسرة في كل أنحاء العالم تحتاج إلى رعاية صحية واحتياجات غذائية، وخدمية وتعليمية مع الشعور بالأمان، وإن توفير الاحتياجات الأساسية للأسرة العراقية يساعد في تقليل هموم المواطن العراقي، وبالتالي الحفاظ على الأسرة العراقية من التشتت والضياع والحفاظ على صورة العراق مشرقة أمام دول العالم أجمع.
ونحن هنا ننقل آهات المواطنين لمن يهمه أمرُهم وأمرُ هذا البلد.. رغم أن الكلام بات لا يجد من يسمعه!! وأغلب مقالاتنا كلها طافحة باليأس!! ولكن، أياً كان الحزن.. فالأمل لدى العراقيين لا يزال كبيراً في غدٍ يعتقدون أنه سيكون واعداً بإذن الله.
ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.