البقرة السوداء تعطي حليباً أبيض!

وهل فكرنا ولو مرة واحدة أن لا نحكم بالظاهر فالمظاهر خداعة؟ وهل توقفنا ولو لمرة عند أي تصرف نراه مضحكاً من الآخرين، وفكرنا أنه قد يكون نتيجة لحادثة أو أن وراءه قصة محزنة؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/25 الساعة 02:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/25 الساعة 02:23 بتوقيت غرينتش

أثناء المحاضرة طلب الدكتور من طلبته -كنوع من النشاط- كتابة تقارير حول ملاحظاتهم عن الأشخاص الذين يرونهم حولهم أياً كانوا.

هؤلاء الأشخاص وأينما كانوا، بالنسبة للطلبة الموضوع بسيط وسهل، اجتمع الطلبة في مكان عام حيث الكثافة السكانية المرتفعة، وأخذوا يراقبون الناس، وبدأ كل منهم في تسجيل ملاحظاته، فلان يمشي بطريقة يظهر فيه الخيلاء، وفلان يرتدي ملابس أنيقة تدل على حسه وذوقه العالي، فلانة تمسك بشنطة مميزة وترتدي حذاءً من نفس اللون، فلان شخص حساس فهو يسير ويتحدث بصوت منخفض، وهذا شخص يبدو عليه الحمق فهو يفعل أشياء لا تليق، وآخر يرفع صوته لأنه يريد لفت الأنظار.. استمرت المراقبة لقرابة الساعتين سجل فيها الطلبة عشرات الملاحظات عن الشخصيات وتصرفاتها وطريقة لبسها وحديثها وتعاملها وطريقة السير وماذا تأكل وماذا تشرب.. ببساطة كل شيء. نعم كل شيء وبأدق التفاصيل.

اقترحت طالبة منهم أن يسجلوا ملاحظات حول بعضهم بعضاً، كتب كل منهم ما يراه في الآخر من سلوكيات وشكل عام، وكان الموضوع مدعاة للضحك والسخرية، فكان من بينهم بعض الطلبة غريبي الأطوار، نال الأساتذة من الحب جانباً ولم يسلموا من الملاحظات والسخرية من بعض الأشياء التي يقومون بها أو بعض الحركات التي تميزهم، فذاك يتهته في الكلام، وآخر صوت تنفسه مرتفع، وثالث له كرش كبير، أما الدكتورة فلانة فهي رجل في ملابس امرأة يهابها الجميع، ودكتورة المادة الفلانية أضحوكة فقد كانت تمشي بطريقة غريبة كالزومبي الخارجين من القبور بعد موتهم وصوتها يشبه أصوات المخلوقات الفضائية.

ممتع وشيق بالنسبة لنا أن نسمع ونراقب، دعونا نعيش هذه التجربة ولو للحظات، كم هو جميل التعرف على الآخرين وكم هو ممتع، فقط نحتاج لنراقب ونتأمل كل من حولنا، بالتأكيد سنخرج بالعديد من القراءات حول بعض الأشخاص.. هل جربتم ذلك من قبل؟ حتماً كلنا وبدون استثناء قد قمنا بذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة.. لنتذكر فقط وسنجد أننا قد فعلنا ذلك مراراً وتكراراً.

في قاعة المحاضرات طلب الدكتور من الطلبة تقديم التقارير الخاصة بهم على أن يقوم كل طالب بالوقوف أمام الجميع ويسرد ملاحظاته التي رأها في الآخرين، طلب الدكتور من الطلبة الباقيين تسجيل ملاحظاتهم عن كل طالب متحدث وكتابة أي ملاحظات قد يرونها مهما كانت، بدأ الطلبة في الوقوف والتحدث وسرد الملاحظات وقراءتهم للشخصيات التي رأوها، تقديم التقارير كان جميلاً فالبعض كان يقدمها بشكل ساخر وكوميدي، وآخرون قدموها بشكل علمي، وثالث قدمها بشكل ركيك.. في نهاية تقديم التقارير قام الدكتور بجمع الملاحظات التي كتبت عن الطلبة الذين قاموا بإلقاء الموضوع، من بينها ملاحظات توقف عندها الدكتور كثيراً، الملاحظات حول طالبة ستتخرج التيرم القادم من الجامعة، الملاحظات كانت تشير إلى أن الطالبة: قصيرة، تلبس نظارة كالعجائز ذات عدسات كبيرة، بعض الحروف لديها ضائعة فحرف الراء لديها (ياء) والطاء (تاء) والكاف (تاف) والسين (ثين)، مليئة الجسم، ثيابها رثة وغير مناسبة، شكل الأذن مضحك للغاية فالأذن اليمنى كانت مقطوعة، لا تستطيع التعبير وكلامها غير مفهوم..

شكر الدكتور التلاميذ على جهدهم، طلب من الطالبة ذات تلك المواصفات المضحكة الوقوف، وقفت على استحياء وأصوات ضحك زملائها كانت واضحة والهمس واللمز كانا واضحين أيضاً بين صفوف الطلبة والطالبات، وقفت وقد احمرت وجنتاها خجلاً، ابنتي.. أخبريني عنك قليلاً! هكذا قال الدكتور، قالت: "أنا فتاة مثئولة عن أثية متونة من أيبعة أخوات أنا أتبيهم ثناً وأمي طييحة الفياش، أبي مات بحادث ثيي، تنا معه في الحادث أنا وأمي، أثبت بارتجاج في المخ وأثيبت عيناي بشتل تبيي، إضافة إلى بعض التثويه في اليجل والحوض، أنا أعمل في الفتية المثائية لتي أعيل إخوتي وأمي وأدفع مصاييف الجامعة، أتمل تعليمي حتى أوفي وعدي لأبي الذي أياد أن يياني دتتورة، وعدته بذلت وهو يخيج في اليوح.

.. كانت الفتاة تتحدث والدموع تنهمر من عينيها، وصوتها قد ظهرعليه حاجتها للصراخ أكثر منه للبكاء فقد كانت تحمل الكثير، على النقيض تماماً الجميع يضحك من طريقة حديثها فالكثيرون لم يفهموا. أليس ذلك صحيحاً.

الدكتور متأثراً: شكراً لك ابنتي على هذا الحمل الذي يعجز الكثيرون منا عن حمله، هل تعرفون أن زميلتكم طالبة نابغة وذات مستوى علمي مرتفع وستكون ذات شأن، ستتخرج في العام القادم إن شاء الله وستكون الأولى على الدفعة وستتعين معيدة في الجامعة ثم ستكمل الماجستير والدكتوراه، مع أن ظروفها صعبة وقاسية فهي تضطر للبقاء ما يزيد عن 3 ساعات في المواصلات لكي تحضر وتذهب من الجامعة، إضافة إلى عملها بعد ذلك. شكراً لك ابنتي.. كان الجميع قد صمت وبدت عليهم علامات الخزي والخجل من أنفسهم.

هذا هو حال معظمنا نسخر من كل شيء ومن أي شيء، إن لم نجد ما نسخر منه سخرنا من أنفسنا، كل تصرف يقوم به الآخرون مضحك، كل ما يقولونه أمر يستحق أن نسخر منه، اللبس، الشكل، حتى الأشياء الخاصة التي لا يعلم أحد بها نسخر منها، فذاك الرجل يتعامل مع زوجته بطريقة غبية، وتلك الأم تربي أولادها بشكل لا يليق وهذا وذاك وهؤلاء وهو وهي وهم.. لم يسلم أحد من لسان بعضنا، نحن نضحك على الآخرين ونقيمهم بالظواهر فقط، عندما يلبس أحدهم ساعة فاخرة نرى أنه غني حتى وإن كانت الساعة مقلدة لا تساوي سوى حفنة من الدولارات، وعندما تتحدث إحداهن بأسلوب راقٍ نقول إنها ابنة عز وكلاس، هكذا نقيم الناس بالشكل وبما يبدون عليه.. معظمنا إن لم نكن كلنا نفعل ذلك، وفي كل شيء.. في الشكل والثقافة وحتى الدين الذي هو سر بين العبد وربه رب العالمين.

لنسأل أنفسنا: هل لا بد لنا أن نسخر من الآخرين مهما كانت عيوبهم؟ وهل ما يقوم به غيرنا مادة للسخرية والاستهزاء؟ أليس لكل منا عيوبه؟ وهل فكرنا ولو مرة واحدة أن لا نحكم بالظاهر فالمظاهر خداعة؟ وهل توقفنا ولو لمرة عند أي تصرف نراه مضحكاً من الآخرين، وفكرنا أنه قد يكون نتيجة لحادثة أو أن وراءه قصة محزنة؟

الأهم من ذلك كله: هل اخترنا أن نكون ما نحن عليه أم أن ذلك فضل ونعمة وهبة من الله؟ نحن لم نختر أنفسنا ولا أشكالنا ولا ألواننا، لقد مُنحنا ذلك كله، تشربنا من كل ما نعيش فيه من ظروف ومعاملات، قد يكون من نستهزئ بهم أنا وأنت وأنت، فالله قادر على تغيير الأحوال وتبديل الأمور وتقليبها، كفانا سخرية وكفانا عبث، كلنا ذلك الإنسان مهما امتلكنا ومهما كان ما لدينا، كلنا سواسية وما كتب على البعض قد يكتب ما هو أسوأ منه علينا، فلنعش حياتنا بالحب، لا تخدعنا المظاهر حتى وإن قالوا: الكتاب من عنوانه، سأقول لهم الكتاب من محتواه وفحواه وبيانه، أما العنوان فكم من العناوين ليست سوى حروف وأرقام، وكم من الأسماء ليست إلا مجرد عناوين.. لنبحث عن الجوهر والمضمون ولنحاول التوقف عن السخرية، فقد أمرنا الدين بذلك حتى لا نقع في الخطأ أو نمشي في طريق سيؤدي بنا إلى المهالك.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد