ماذا لو عشنا في مدينة من زجاج كل منا ينظر للآخر من وراء حواجز دون معايشة حقيقية؟
ماذا لو تحولنا في حياة بعضنا البعض إلى "أشباح" محبوسة في "غرفة موصدة"، تحتاج إلى تحريات خاصة أقرب إلى التحريات البوليسية لكشف طبيعة المدينه التي نعيش فيها وطبيعة علاقاتنا فيها.
هذا ما يحدث في رواية "ثلاثية نيويورك"، للكاتب الأميركي "بول أوستر"، التي صدرت ترجمتها العربية عن دار الآداب عام 2016، للمترجم المصري كامل يوسف حسين، بعد حوالي ٣١ عاماً من صدورها في طبعتها الأميركية الأولى.
إننا نواجه الجريمة في هذه الثلاثية، لكننا في نهاية النفق نلتقي بالنفس الإنسانية، لا بالقاتل أو المجرم، كما يقول كامل يوسف في مقدمة الترجمة.
أما رواية ثلاثية نيويورك فهي عبارة عن ثلاث روايات منفصلة لا يجمع بينها سوى اسم الكاتب بول أوستر وكونها تدور في نيويورك. وكل رواية من الروايات الثلاث لها أبطال مختلفون وعنوان مختلف وأحداث متنوعة.
مدينة الزجاج.. اتصال خاطئ يصنع رواية
تدور أحداث الرواية الأولى "مدينة الزجاج"، حول "كوين"، وهو كاتب قصص بوليسية تصدر تحت اسم مستعار، يتلقى ذات ليلة اتصالاً من مواطن مهدد بالقتل. وعلى الرغم من معرفة كوين أن الاتصال تم بطريق الخطأ، إلا أنه يصر على خوض التجربة ومساعدة صاحب الاتصال.
يبدأ "كوين" بلقاء هذا المواطن وجمع المعلومات عنه والخروج لمراقبة من يهدد حياته وتتبعه، وهو ما يدفع كوين إلى قراءة وبحث مؤلفات قديمة تمثل التاريخ الفكري للولايات المتحدة الأميركية، والتي حرص الكاتب على توضيح مصدرها فى هوامش داخل الرواية.
ومع تتابع الأحداث لا يهتم "كوين" بمراقبة القاتل فقط، بل يذهب إلى رصد المجتمع من حوله من خلال صور متعددة للمواطنين الذين يمثلون طبقات المجتمع الأميركي بالكامل، وقد اتضح ذلك مع نهاية الحكاية حين يتفقد راوية القصة كتيب ملاحظات كوين.
تنتهى الأحداث وقد اندمج "كوين" في مهمته الجديدة حتى تناسى حياته الأساسية، تلك النهاية التى أراد الكاتب أن يعبر من خلالها عن حقيقة هامة، وهي أنك حين تتبع حياة أحد لابد أن تخسر حياتك دون أن تشعر؛ لأنك تتقمص طباعه وعاداته التي تصبح جزءاً منك بحكم العادة فتسير وفقاً لخطواته وتفكيره.
مراقبة الاشباح.. الانطباعات عن الناس خاطئة تماماً
ثم ننتقل إلى الرواية الثانية في الثلاثية وهي رواية "الأشباح"، والتي تدور أحداثها حول "بلو"، الذى يعمل منذ سنوات فى أحد مكاتب التحري، ويتم تكليفه بمراقبة "بلاك" لهدف ما لم يحدده الكاتب.
وبالفعل يبدأ "بلو" في أداء مهمته، فيسكن في المنزل المقابل لمنزل "بلاك" فيكتشف أن الأخير لا يغادر المنزل كثيراً، فهو عاكف على الكتابة أغلب الوقت، ما يضطر "بلو" إلى التنكر فى شخصيات عديدة حتي يتسنى له اقتحام خلوة "بلاك" لمعرفة المزيد عن شخصيته، والتي قد تساعده فى الوصول إلى السبب الحقيقي لمهمته.
المهمة تبدو غامضة في بعض الأحيان حتى بالنسبة له، بالإضافة إلى الوصول لحقيقة أخرى وهي أن انطباعاتك الشكلية عن شخص ما قد تختلف تمام الاختلاف إلى حد الخطأ حين تتعامل معه بشكل مباشر، فالواقع دائماً أصدق.
سر الوصية.. غرفة موصدة تفك أسرارها وصية غامضة
يصل الكاتب في ثلاثيته إلى الرواية الثالثة، وهي "الغرفة الموصدة"، التي تدور أحداثها حول "هنري" الذي يتلقى اتصالاً هاتفياً من زوجة صديق قديم له يدعى "فانشو"، تخبره بأنه اختفى فى ظروف غامضة، لكنه ترك لها وصية فى حال اختفائه، أن تعهد إليه بكل أعمال "فانشو" الأدبية لقراءتها والحكم على صلاحيتها للنشر.
تأخذنا الوصية إلى الماضي الذي يروي من خلاله "هنري" ذكرياته المشتركة مع "فانشو" التي تعد فرصة القارئ للتعرف على شخصية كل منهما. بالفعل يوافق "هنري" على الطلب الذى يؤدي به إلى أن يحيا حياة صديقه ويتزوج زوجته ويتبنى ابنه الوحيد، لكنه يصر أن يبحث عن صديقه.
وكلما اقترب من العثور عليه ابتعد "فانشو" أكثر، خاصة بعد أن نشرت أعماله بالفعل ولاقت نجاحاً كبيراً للدرجة التي أدت إلى اقتراح كتابة قصة حياته التي تؤدي لمزيد من البحث في الماضي.
بنهاية القصة الثالثة تتجمع العديد من خيوط القصص السابقة، فالراوية واحدة والكاتب أيضاً، بالإضافة إلى أن القصص الثلاث، جاءت بنهايات مفتوحة تتجدد وتختلف وفقاً لوجهة نظر القارئ مع كل قراءة جديدة للرواية كاملة، ويتضح أيضاً من خلالها أول رابط بين الحكايات الثلاث؛ فقد حدثت في زمن واحد وفي مكان واحد هو مدينة نيويورك، وهذا ما أكد عليه الكاتب مع بداية كل قصة.
وما الفائدة من تتبع حياة الآخرين؟
حرص الكاتب في الرواية على وصف جغرافيا المكان بالتفصيل، وتاريخ بعض الأحداث أيضاً؛ ما أدى إلى تشتت القارئ عن الحدث الأساسي في بعض النقاط، بالإضافة إلى السرد الطويل الذي قد يبعث على الملل أثناء القراءة، وقد يدفع بعض القراء لتخطي بعض الأجزاء دون قراءتها.
في النهاية سيتساءل قارئ المقال: أين تكمن الفائدة من عرض تجربة التحري والتتبع لحياة الآخرين داخل الرواية؟!
الإجابة التي نؤكد عليها في هذا المقال هي أن حياة الآخرين ليست ببعيدة عن حياتك، وقد تكون وجوه الآخرين هى أحد وجوهك أنت، الفارق الوحيد أنك لم تحيا حياتهم، ولم تعش الظروف نفسها التي وجدوا فيها، بالإضافة إلى أنك حين تتبع حياة شخص آخر تتحول إلى عبد بلا إرادة، فأنت تتصرف وفقاً لما تراه وتنقله عنه، تلك المعلومات نابعة من تفكيره هو وما أنت سوى تابع يتحول إلى صورة منه، ويتحول إحساسك بأنك من يراقب الآخرين ليتحكم بهم إلى مجرد فخ تكون أنت في الحقيقة أول من يقع فيه.
مسيرة الكاتب بوليسية إنسانية
وُلد بول بنجامين أوستر في الثالث فبراير/شباط من عام 1947 بالولايات المتحدة الأميركية، وعمل في فرنسا بالترجمة ثم عمل بالصحافة قبل أن يتفرع بعد ذلك لكتابة الشعر والرواية.
تميزت أعماله بكونها خليط من الأدب البوليسي من حيث الإطار السردي، لكنه يستخدم هذا الأسلوب المعروف بأدب التحري في إثارة أسئلة وجودية، والبحث عن هوية الإنسان.
ومن أهم أعماله التي ترجمت لأكثر من أربعين لغة: قصر القمر، وكتاب الأوهام، وحماقات بروكلين، وبلاد الأشياء الأخيرة.
عندما سُئل بول أوستر في حوار تم إجراؤه معه عن ثلاثيته عن نيويورك، وهل تعد الأفضل بين رواياته التي اقتربت من 20 رواية، قال: "لا أدري ربما تكون الأوسع انتشاراً ولذلك فهي الأفضل للناشرين".
تبقى الجريمة غامضة والشخصيات غارقة في الألغاز
تبدأ الرواية بمقدمة طويلة للمترجم يتحدث عن طبيعة أعمال الكاتب الأميركي بول أوستر، وأهمية قراءتها والمتوفر منها فى نسخ مترجمة، ومناقشة بعض أفكاره، بالإضافة إلى أن الرواية هي نقطة التعارف الأولى للقارئ العربي بالكاتب.
يقول المترجم: "صدرت ثلاثية نيويورك منجمة في طبعتها الأميركية، إذ كانت البداية في عام 1985 برواية مدينة الزجاج ثم أعقبتها الأشباح والغرفة الموصدة عام 1986".
ويرى المترجم في مقدمته أن أول ما يلفت النظر في ثلاثية نيويورك هو تبني أوستر لمعطيات المنهج البنيوي وتطبيقه على روايات التحري أو الروايات البوليسية.
وهكذا فإنه خلافاً لروايات التحري الأميركية المألوفة منذ "إدجار آلان بو"، يترك أوستر الجريمة غامضة والقضايا ملتبسة والشخصيات والمواقف ملغزة، بل إنه لا يتردد في التلاعب بتقاليد الكتابة في روايات التحري على نحو يضفي عليها تجريدية غير مالوفة.
الرواية متوفرة بصيغة pdf
عدد صفحات الرواية 498
الناشر: دار الآداب
المؤلف: بول أوستر
المترجم: كامل يوسف حسين، مصري مقيم بالإمارات، ترجم أعمال الروائي الياباني يوكو ميشيما، كما ترجم رواية التحري لفرانز كافكا وثلاثية نيويورك لبول أوستر وحصل على جائزة سلطان العويس عام 2016.