للحديث عما يحصل في المملكة العربية السعودية يجب نقرأ المشهد السعودي من جميع الأطراف، فما هو متداول ومعروف عن السعودية أنها دولة نفطية قوية تملك من القوة ما يجعلها تصمد تحت أكبر الزلازل والتحديات السياسية، إلا أن المشهد في المملكة مختلف نوعاً ما عن ذلك، فبطبيعة الحال منذ توحيد المملكة عام 1932 م فقد تعاقب عليها مجموعة من ملوك آل سعود تتسم إدارتهم للبلاد بنفس طريقة إدارة القبيلة، والذي يؤذن بطبيعة الحال بتلاشي القوة فيها؛ لأنها لا تعتمد على شعبية تستمد منها قوتها في حال تعرضت لزلزال سياسي أو اقتصادي، غير أن النفط كان صمام أمان أمام فقدان العائلة الحاكمة لسطوتها على المجتمع السعودي؛ لأن المواطن السعودي يشعر نوعاً ما باستقرار مادي ورفاهية مختلفة عن أقرانه العرب المحيطين به، وما يثبت الإدارة القبلية للدولة هي بعض محاولات الانقلاب والاغتيال والسيطرة على الحكم في سبعينيات القرن الماضي من قبل أفراد العائلة، وضمن جميع من تعاقب على حكم المملكة لم يقم أي ملك منهم بأي تعديلات دستورية أو حريات عامة تكفل للعائلة الاستناد على حاملة شعبية فيما لو حصل أي تهديد سياسي للعائلة، وتكفلت أيضاً الطبيعة البشرية والجغرافية السياسية والموارد النفطية للمملكة بالصمود نوعاً ما لسنين دون أي تهديد لها.
لكن الطبيعة الآن تغيرت، وبالأخص أن النفط لم يعد صماماً لها تستخدمه في فرض قرار سياسي كما حصل في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 وتغيرت الطبيعة البشرية وزاد عدد الشباب العاطلين عن العمل في المملكة، وزادت الحاجة إلى بعض الحريات السياسية والدينية فيها، ولم يعد الخطاب الديني السعودي يفي بالغرض من أجل إحكام الأمر باعتبار أن الشرعية الملكية مستمدة من الدين بصفته الحاكم للدولة والشعب، وأصبح من الضروري إحداث تغييرات حقيقية في العائلة الحاكمة، وبالأخص أن العائلة قد كبرت وأصبحت تقوم على عدد من أباطرة المال والإعلام والسياسة من نفس العائلة، وأصبح اتخاذ القرار السياسي وحتى الاقتصادي منهكاً وصعباً جداً لمتخذي القرار في المملكة، وحين كان يعتقد الملوك السعوديون أنه بالإمكان التغيير في أي وقت وبالسرعة التي يرونها اصطدموا بواقع أن أباطرة السياسة والمال قد تغلغلوا في كل مفاصل الدولة، وأن الاستثمارات المالية لرجال الأعمال في خارج المملكة أثرت على اتخاذ القرار السياسي فيها، وأصبح الوجود السعودي في المنطقة يتراجع تدريجياً على الصعيد الإقليمي والدولي، ولأنها أحست بهذا التراجع أصبحت قرارات المملكة السعودية تتسم بردة الفعل، وبالأخص في دعم حكومة الانقلاب في مصر، وبعاصفة في اليمن اتخذت صفة الحزم، ولكنها لم تحزم شيئاً رغم مرور سنتين عليها، وفي حين أن السعودية لا تزال تعيش القبلية الحوكمية في الإدارة، فإن في الجوار برلمانات وحكومات واختيار للمثلين رغم التبعية الملكية لها.
تعاقب على حكم المملكة في الحقبة الأخيرة 3 ملوك أصغرهم كان يبلغ من العمر 80 عاماً لم يستطع خلالها إحداث أي تغيير يذكر زاد من عبء المرحلة القادمة، وهذه المرحلة تهددها تمدد إيراني في المنطقة، حتى إن السعودية أصبحت محاصرة من عدة جهات بخطر إيراني محدق بها؛ لذلك كان لا بد من نقلة حقيقية في المملكة تتيح لها مجاراة الواقع الحالي والتحديات والمخاطر التي تحدق بها على جميع الأصعدة الاجتماعية والسياسية وحرية اتخاذ القرار.
تكمن خطورة التغيير في السعودية بطبيعة القيادة الجديدة لها؛ لتتناسب مع الحقبة القادمة، فالتغيير يجب أن يبدأ في التركيبة المجتمعية للمملكة قبل تغيير المفاصل الرئيسية، ولكي تدور عجلة التغيير من الجمود نحو التغيير الجديد لا بد من الموازنة بين الضروريات والمصالح المشتركة بين القيادة السعودية والمفاصل الاقتصادية وبين التحول الإقليمي وارتباطها خارجياً، وهذا ما لم يدركه محمد بن سلمان في الخطوات التي اتخذها ضمن عملية تصفية أقرانه ومن يهدد ملكه بدعم كامل وتفويض تام من والده، ولا أدري إذا كان يدرك أن هذه الحملة قد تؤدي إلى إحجام المستثمرين الأجانب عن الاستثمار في السعودية؛ لأن التهمة أصبحت واضحة وجاهزة لكل من يريد أن يهدد أمن العائلة الحاكمة، ولا أدري إذا كان يدرك أن أباطرة المال تسيطر على الاقتصاد والإعلام ومفاصل الدولة التي يشعر بها المواطن العادي الذي لا يتابع نشرة الأخبار على أقل تقدير، ولا أدري إذا كان يدرك أن فتح جميع الجبهات الداخلية والخارجية في وقت واحد ربما يؤذن بحرب مفتوحة داخلياً وخارجياً ويؤدي بالمملكة للانهيار في أي وقت ممكن.
أو ربما يدرك الشاب الصغير أن التغيير أصبح واقعاً ومتأخراً حتى؛ ليوصل رسالة داخلية وخارجية بأن ضرورة التغيير أصبحت واقعاً الآن، وربما هي صفقة بين أفراد العائلة الحاكمة فيما بينهم والاتفاق على صياغة المرحلة القادمة في ظل التهديدات الخارجية المتمثلة بإيران والحوثيين، وحزب الله الذي بدأ يتجرأ على السعودية وهو غارق في المستنقع السوري.
أعتقد أن بن سلمان لا يدرك تماماً ما يقوم به وهو يضرب – بسيف والده وسيف الولايات المتحدة الذي هزه ترامب مراراً وتكراراً- يمنة ويسرة أنه وبعد فترة قصيرة سيرى المملكة في فكي كماشة داخلية وخارجية، وسيعلم أن الدعم الأميركي له لن يقتصر إلا على تنفيذ مصالح الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، مما سيضطره إلى اتخاذ خطوات عكسية، ولكن مختلفة من حيث السرعة والتأثير، وأن أولى الخطوات العكسية هي إعادة العلاقات مع قطر، وإصلاح البيت الداخلي لمواجهة الأخطار الخارجية، وعكس ذلك فإن المملكة العربية السعودية مقبلة على أن تكون على كف عفريت، ولن تكون عواقبها محمودة إطلاقاً، فالخطر الإيراني يقترب أكثر لأن يكون صعب السيطرة وصعب المواجهة، وعجلة التغيير الداخلي بدأت بالمسير رويداً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.