كنت أراقبها من بعيد، غيداء هي كزهرة عانقها الجمال فأخذت بلب الناظرين، غريبة كناسك متعبد خانه الوقت في زمن المجون، متفردة بذاتها كنبتة وحيدة حزينة في بيت هجره سكناه اللاجئون، رقيقة كلحن حزين يبعث على الوجد حيناً ويدفع دوماً إلى الشجون!
لم أرها مرة إلا وقلت في نفسي كما يقول الرافعي: "من هنا يبدأ ما لا يدرك" لا لجمال الخلقة والظاهر، بل لنوع آخر من الجمال يكاد يطفو على وجنتيها حتى ليبدو وكأن لا موطن له إلا هناك! أذكر أننا تحادثنا غير ذات مرة، وفي كل مرة كان اعتقادي يزيد رسوخاً بأنها لا تنتمي إلى هذا الكوكب، بل إن صح التعبير لعلها لا تنتمي إلى هذه المجرة بكاملها! هناك نوع من البشر غرباء عنا؛ أولئك الحالمين، أصحاب العوالم المثلى والقيم النبيلة، أولئك الذين حين تراهم تشعر لوهلتك ويكأنهم قد سقطوا من السماء، التائهين في غابات الفلسفة الشاسعة، المترددين ما بين ابن عربي والغزالي وأفلاطون، العاكفين على استنفار الهمم واجتثاث الوهن، القائلين لإخوانهم هلمّوا إلينا، العائدين من بعد قرار وطول انتظار، أولئك الذين سابقوا الريح ففتحت السدود وكسرت القيود فعاشوا كما لم يعش الآخرون، الرافعيين؛ مدمني "وحي القلم" و"ورسائل الأحزان"، متذوقي الموسيقى وعاشقي العود، متذكري الأندلس ومسجد السلطان حسن، أولئك الذين تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً منه ورضواناً!
أذكر أنني سألتها عن حالها يوماً فأجابتني: "وأخالك الآن تدركين أنني على المحك، على شفا حفرة من الهلاك أو أقرب، غير أنه ثمة نور يلوح في الآفاق من بعيد يا رفيقة، لا تستطيع عيناي الإحاطة بأطرافه اللامتناهية، ولا تكاد حواسي تغيب لوهلة عن محرابه المقدس، وبين هذا وذاك.. لا أرى لساني إلا وعاجزاً -في حضرته- عن النبس ببنت شفة! لم أعد أراني -والحال هذه- إلا مقبلةً ومدبرةً، ظاهرةً ومختبئةً، متحدثةً وصامتةً، حرةً ومسجونةً، مذكورةً ومنسية، مقبلةً على الخلوة مدبرةً عن السراب، ظاهرةً للعيان مختبئةً في أعماق كهفي، محاورةً حين جدوى صامتةً مع الفئة الغالبة لنيل المبتغى، حرةً في أعراف الناس مسجونةً في عوالم الأفكار، مذكورةً عند الكتبة الكرام منسيةً عند الخلائق أجمع، لم أعد كما عهدتيني يا صديقة، فقد بعت سراب الدنا بثمن بخس، ومن ثم رحلت إلى حيثما يكون القلب أواهاً منيباً، وتكون الروح حًلوةً نضرةً"، كنت أتساءل دوماً عن سبب الحزن الذي يشوب حروفها دائماً، وعن عمق التجربة الصوفية التي تعيشها بكينونتها ووجدانها التائهين، بيد أني صعقت حين أدركت الإجابة، ويا لله!
كل ما كنت أفهمه أن هذا العالم كان يخيفها كثيراً وأنها لا تتألم من شيء إلا من الوجود، ترعبها فكرة الوجود بحد ذاتها، تستهويها دائماً مغامرة المقارنة بين الحياة والموت، ولكم راود السهاد قلبها وعينيها آملاً الوصول إلى إجابة شافية لتساؤلات لطالما ساورتها، فقد كانت -كما عهدتها- تتساءل دائماً: ترى هل ثمة ما يدعو إلى الوجود بديلاً عن الموت! كانت فلسفتها عميقةً معقدة، وكنت أسعى جاهدةً لأفهمها إذ تتحدث أو تكتب، كانت تبكي بحروف تكتبها ومقطوعات تعزفها، كنت أشعر بها كثيراً، أبكي لحزن ألم بها، أرفع اسمها إلى ملكوت السماوات ليتغمدها الله برحمته، كان يوجعني أنها لم تعد تبكي بعينيها رغم أني لم أزل أشعر بصوت بكائها الخانق، كان يقتلني أن تنهيدتها الخافتةً لم تعد تتسلل من وراء جدار، أن عينيها اللامعتين قد انطفأتا؛ لتتحول كلاهما إلى ليلة داكنة في أعماق كهف مترام الأٙطراف، ويا لله!
لا أدري كيف لهذا النوع من البشر أن يعيش في عالم لا يخلو من تفاهة القول وسطحية التفكير؟ كيف للناس ألا تدرك أهمية العقل والعيش بمنهاج مًستقيم؟ لماذا نعيش فقط حياةً بهيميةً؛ نأكل ونشرب ولا نفكر إلا في القيل والقال، نهتم جل ما نهتم بتزيين أنفسنا ظاهرياً والعفن يسري بدواخلنا وعقولنا؟
سلام على أولئك المختلفين، الذين قرروا ألا يعيشوا إلا للبحث عن سبب الحياة، الذين تفلسفوا فما كان منهم إلا أن غيروا وتغيروا، الذين يرون شعاع الأمل في أعماق الظلام البعيد، الذين لا يبالون بما يقول الناس عنهم، فالعقل برهان والبرهان لا يضل ولا يخيب!
فقط دعوهم يعيشون، ولينشغل كل منكم بما يعينه، هذا العالم يكفيه ما فيه فلا تكونن عبئاً عليه، ولتتعقلوا يرحمكم الله!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.