أَفَلَيس في العالم حكماء؟

فلكل بداية نهاية ومهما طال الزمن وتمدد أو انكمش على نفسه، فلهذا الكون نهاية حتمية، فلماذا يتسارع الناس للقتال، ولماذا امتلأت الأرض حروباً، فيوماً بعد يوم تشتد المعارك مرة باسم الدين ومرة باسم القومية ومرة باسم الاحترام ومرة باسم الريادة؛ لأننا ابتعدنا عن الهدف والحكمة من وجودنا، فما دامت هناك نهاية حتمية فردية وهي الموت، ونهاية حتمية كونية وهي الفناء، أَفَلَيس بيننا عقلاء؛ ليذكروا العالم الجدوى من وجودنا، فيعمّ السلام في هذه الأرض ونعيش سواسية فوقها، كما سنسير إلى الحياة الأخرى سواسية، ولكل على نفسه ما جنى.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/25 الساعة 03:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/25 الساعة 03:25 بتوقيت غرينتش

مهما تمعنّا في هذا الكون الواسع اللامتناهي في الصغر وفي الكبر، ومهما تعمقنا في ذراته وأنويتها التي لن تنتهي في نتروناتها وبروتوناتها، بل وكلما غصنا وغصنا إلا وازدادت عوالمه الدقيقة أكثر غموضاً وأكثر تعقيداً، وازدادت حيرتنا وقلة علمنا، وأصبحنا أكثر قناعة أن هذا النظام المعقد الذي يعجز حتى عالم الكوانتا في شرحه بصورة مفصلة ومنطقية وحتى مجملة؛ لأنه عجز عن فهمه بنظرته المادية فقط؛ وكلما سبحنا في مجراته وانتقلنا بين كواكبه وحددنا مساراتها ومكوناتها والقوى التي تتحكم في انتظامها وتأثيراتها البينية وبين العوالم الأخرى، إلا وزدنا يقيناً بأن لا الميكانيكا الكلاسيكية ولا نظرية النسبية يمكنها أن تحدد بشكل دقيق هذه التأثيرات الجاذبة والطاردة أحياناً في الزمكان.

وإن هذه القوى مهما كبرت أو صغرت يبقى العقل البشري عاجزاً عن إدراكها وفهمها بدقة، وتبقى دائماً مجرد نظريات تحاول أن تضع نموذجاً محاكياً للواقع وقريباً من الحقيقة فهماً للظواهر الطبيعية ومحاولة لتقنينها.

فكلما سبحنا في العوالم الكبيرة أو غصنا في الدقائق الصغيرة إلا قلّت معرفتنا وازداد شكّنا وأصبحنا أكثر يقيناً بأن جهلنا أعمق وأكثر، وأن هذا العاقل الوحيد على هذا الكوكب أكثر ضعفاً وأقل حيلة أمام أي طارئ أو ظاهرة طبيعية تصادفه في حياته اليومية مهما تجرّد، وحتى محاولة فهمه وتنظيمه للعالم الوسطي الذي يعيش فيه ما بين الميكرو والميزو والماكرو قد فشل فيه فشلاً ذريعاً، فلا القوانين الوضعية الكونية ولا المواثيق والمعاهدات الدولية استطاعت أن تنجح في خلق ذاك التناغم بين الشعوب والأمم، وحتى بين أفراد هذه الشعوب، وأن تجعل السلام يسود فيما بينها، مما يبين أن النظرة المادية وحدها تبقى قاصرة، وأن الواضع للقوانين والتشريعات لا يمكنه أن يلم بالكلية، بل تبقى مجرد نمذجة لوضعية نسبية تتحكم فيها معطيات وشروط أولية ووقتية متغيرة في أبعاد الزمكان.

وإن تطرف الواضع والمشرع لقانون أو لفصل لتدبير وضعية ما، أو لحل مشكلة ما، يماثلها تطرف العالم لنظرية أو لقانون كوني يتأكد مع الوقت قصره وعدم كليته في فهم وتحليل كامل لظاهرة طبيعية.

لهذا تجد مجموعة من التجاذبات المجتمعية الداخلية في الوطن الواحد أو الخارجية بين الأمم، فتنتج الثورات والحروب ويسود اللاسلم.

فإذا كان العالم قد فهم أنه لا قانون ثابت ولا نظرية كونية أبدية، فعلى عالم الاجتماع والمنظر والمشرع أن يفهم نفس الأمر، وأن يتجرد من انتمائه ومجموعته، وأنه مهما بلغ من الفهم يبقى قاصراً، فلا قوانين أثينا وروما بقيت ولا شرائع حمورابي صمدت، فالكل متغير من الأساطير اليونانية إلى المواثيق الدولية، ومن الميكانيكا الكلاسيكية إلى الميكانيكا الكمية.

الناجي الوحيد في انتظار الحتمية النهائية هو من يتكيف ويبدع وينتج الأفكار محاولاً فهم العالم وفهم المحيط من العلوم الدقيقة إلى العلوم السياسية وتشعباتها الاجتماعية؛ لأن النظرة المادية مهما علت تبقى قاصرة ومتغيرة في الزمكان، وأن القوانين الإلهية تعلو على المواثيق والتشريعات الموضوعة مهما بلغت من الدقة والواقعية، فالعالم الآن يحتاج إلى الحكماء والعقلاء، لا إلى حمقى ومجانين ومزاجيين؛ لأننا أمام مؤشر خطير ينبئ بنهاية هذا العاقل على هذا الكوكب، خصوصاً بعدما أصبح متاحاً من أسلحة دمار وتقنيات فتك وقتل يصنعها هذا الإنسان من أجل أن يقتل بها بني جلدته، وهي أشد مظهر من مظاهر الأنانية والذاتية، والحكمة ليست بلحية ولا بعدمها، ولا بصغر سن ولا بكبر فيه، ولا بتكوين في العلوم السياسية ولا المخبرية ولا التطبيقية، بل بمدى فهمنا لهذا العالم والجدوى من وجودنا فيه، ومدى إيماننا العميق بمن أوجدنا.

فلكل بداية نهاية ومهما طال الزمن وتمدد أو انكمش على نفسه، فلهذا الكون نهاية حتمية، فلماذا يتسارع الناس للقتال، ولماذا امتلأت الأرض حروباً، فيوماً بعد يوم تشتد المعارك مرة باسم الدين ومرة باسم القومية ومرة باسم الاحترام ومرة باسم الريادة؛ لأننا ابتعدنا عن الهدف والحكمة من وجودنا، فما دامت هناك نهاية حتمية فردية وهي الموت، ونهاية حتمية كونية وهي الفناء، أَفَلَيس بيننا عقلاء؛ ليذكروا العالم الجدوى من وجودنا، فيعمّ السلام في هذه الأرض ونعيش سواسية فوقها، كما سنسير إلى الحياة الأخرى سواسية، ولكل على نفسه ما جنى.

فلم يتبق لهذا العاقل أكثر مما عاش فيه، فإذا كان العلم قد حدد أن 5400 سنة التي مرت منذ تاريخ ظهور الكتابة وتعاقب الحضارات في هذا العالم من الفرعونية واليونانية والرومانية والإسلامية، مروراً بالعصر الوسيط إلى عصر النهضة ثم العصر الحديث، ومع كل تلك المتغيرات التي عرفتها الإنسانية بإيجابياتها وسلبياتها، إلى المتغيرات المناخية، أنها قد وصلت إلى قمتها في وقتنا الحالي تنذر بأن الانحدار بات لا مفر منه، وكل المؤشرات تؤكد ذلك، وأن موعد النهاية بات يقترب لا مفر منه مع تجبر الإنسان وغطرسته وأنانيته في كيفية تدبيره لهذا الكوكب، فليس علينا أن نتعاضد ونتحد ونتماسك فقط أيام الكوارث وزمن الخوف ووقت الحاجة، بل يجب أن يكون هذا هو أسلوب العيش فيها، فهذا الكائن النرجسي الذي يبحث عن السهل في الصعب، وعن الصعب في السهل، يتجاهل أو يتناسى أنه بإمكان الجميع أن يعيش في بحبوحة من العيش الكريم والسلام الدائم، إن هو تنازل عن عنتريته وأنانيته المفرطة في تملك الأشياء وحيازتها، وتجرد من ذاتيته وماديته، فلماذا يتقاتل من أجل حفنة تراب أو قطعة أرض، أم من أجل استعباد إنسان، غافلاً عن أن الخلق والمخلوق للخالق وحده، وحتى وإن كان ملحداً لا بد أن يفكر في أن العشوائية تولد الفوضى، والفوضى تؤدي إلى الدمار، أما إن كان عالماً فلا بد له أن يعرف أن لكل متغير قوة، وكل قوة هناك من يولدها ويتحكم فيها، فإن آمن بهذا إيماناً قوياً واقتنع به قناعة تامة، سيصلح العالم كيفما كان تخصصه، إنسانياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو دقيقاً، ما أفسده الحمقى والنرجسيون والمتملكون والمستعبدون للبشرية.

فما دامت البداية واحدة والنهاية واحدة فما بينهما يجب أن يكون واحداً.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد