فاز المثير للجدل صاحب الآراء والتصريحات العنصرية دونالد ترامب، برئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وتسلم قيادة البلاد رغم كل الانتقادات التي تعرض لها، رفضه المهاجرون من كافة البلدان وصوَّتوا ضده، رفضه السود من أصول أفريقية، وأغلب الجاليات ذات الأصول الآسيوية، والمهاجرون من أميركا الجنوبية، والمسلمون العرب والعجم، وكذلك معظم أصحاب الاتجاهات المستقلة وكافة القوى الديمقراطية، خرجت مظاهرات عديدة في ولايات كثيرة تعلن عن رفضها له وتطالب باستقالته، أعلن أميركيون نيتهم في الهجرة لكندا أو أي بلد آخر بحثاً عن مناخ ديمقراطي بعيداً عن أجواء العنصرية المصاحبة له طوال حملته الانتخابية وحتى الإعلان عن فوزه، مطالبات بإعادة فرز أصوات الناخبين في ولاية ويسكونسن تلبية لطلب تقدمت به مرشحة حزب الخضر الأميركي "جيل ستاين"، طالب ناشطون من ولاية كاليفورنيا بالانفصال عن الفيدرالية.. إلخ.
لكن إياك إياك بسبب كثرة الرافضين له أن تتأثر بمجريات الأحداث في بلادنا وتفكر بعقلية محلية تصل بها إلى درجة من التخلف العقلي والحضاري، فتظن أو تتوقع أو تتخيل مثلاً أن تسعى نخبة من المنتفعين المغرضين تحت مسمى "جبهة إنقاذ أميركا" بافتعال أزمات مقصودة تضر بوطنهم وبمصالح الناس كأوراق ضغط لإسقاطه والإطاحة به، أو أن ينقلب قادة البنتاغون العسكري القوي على خيار الشعب الأميركي فيطيحوا بالرئيس المنتخب ويضعوا مكانه وزير الدفاع مثلاً أو أي شخص آخر من المعارضة.
فكل ما تراه من صور المعارضة لترامب ليست سوى حراك إيجابي ذاتي غير موجه أو مدفوع من جهة ما، تهدف لتحجيمه وتغيير ما يمكن تغييره من خطابه الحاد الذي يحمل عبارات وآراء عنصرية لم يعتَد الشعب الأميركي عليها، والتي تضر بسمعة أميركا وتؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على جزء كبير من أبنائها أو من يسعون للجوء إليها كـ"أرض الأحلام" كما يحبون تسميتها دائماً، وفي نهاية المطاف سيقف الجميع -أفراداً ومؤسسات وهيئات- من أجل الحفاظ على أميركا وانتشالها من براثن مغالطات وأوهام ومستنقع ترامب؛ لتبقى في أعينهم دولة كبيرة موحدة، يعيش فيها الفرد حراً مطمئناً على حياته واستقراره وأمنه وصحته واقتصاده ومستقبل أولاده في مناخ ديمقراطي يسع الجميع.
إنها ببساطة إحدى صور سلوكيات الدول المتقدمة حين تُعلي من قيمة إرادة شعبها، وتتمسك بآليات الحفاظ عليه ومنع الصراع بين ميوله وآرائه ورغباته المختلفة تحت مظلة الديمقراطية وما يسمى بخيار الصندوق، ووصلوا لديمقراطيتهم هذه بعد العديد من التجارب البشرية المتلاحقة، وتمسكوا بها رغم اختلاف أجناسهم وأديانهم ولغاتهم وثقافتهم وألوانهم بعد أن أدركوا أنها الطريق الأمثل للتعايش فيما بينهم.
ورغم أن الإسلام قد سبق هذه الحضارات الغربية في أجل وأعظم وأشمل من هذا؛ حيث أسس لمبدأ الشورى الذي يعمل على تنقيح الرؤى وتقريب الآراء وإنتاج الأفكار التي تساعد على اختيار القرار المناسب الذي يرجح فيه رأي الأغلبية ويلتزم بتفعيله الجميع، ومن ثم تحمُّل ما يترتب عليه من نتائج، مع التكاتف في إصلاح وتقويم أي خلل عارض، بحس اجتماعي مسؤول دون خلاف أو شقاق، إلا أننا في دولنا العربية والإسلامية -إلا ما ندر من أحداث- أهملنا احترام هذه الآليات رغم أنها من مبادئ عقيدتنا وديننا (.. وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ..) (الشورى: من الآية 38)، (.. وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ..) (آل عمران: من الآية 159)، في الوقت الذي سبَقَنا فيه الغرب بتطبيق إرشادات وتعاليم الإسلام التي تؤلف بين الآراء المختلفة وتفصل بينها وتقضي على النزاعات والخلافات والمشاحنات، أهملنا نحن وحي السماء وهدي الإسلام، بل ولم نأخذ بتجارب الآخرين التي كانت من أهم أسباب تماسكهم ووحدتهم وقوتهم؛ لذا علينا ألا نتعجب من حال تأخرنا في الوقت الذي تقدموا فيه، وألا يتهمنا أحد من غيرنا أو من بني جلدتنا المبهورين بثقافة الغرب بأن الدعوة للتمسك بالإسلام هي سبب تأخر أمتنا العربية والإسلامية، بل إن تفريطنا في التمسك بمبادئ ديننا والبعد عن تعاليمه من أعظم الأسباب التي أودت بنا إلى الدرك الأسفل من التخلف والضعف والبعد عن المدنية والتقدم واللحاق بركب الحضارة التي نحن أولى الناس بها وبقيادتها.
لقد فاز الشعب الأميركي بديمقراطيته وليس بترامب العنصري، فديمقراطيتهم التي احترموها أنقذتهم مما وقعت فيه بلادنا، كما أن دستورهم الذي يحترمونه كفيل بتصحيح الانحراف وتقويم الاعوجاج من خلال المسارات الدستورية والقانونية لإلجام ترامب والحد من هياجه العنصري، وستستمر حيوية المجتمع الأميركي بكل أفراده ومؤسساته في كفاح تعديل المسار إلى أن يرعوي ترامب عن أيديولوجيته المتقيحة أو يحكم بعدم صلاحيته، أو تحين أول انتخابات رئاسية قادمة لاختيار شخص سَويّ إن أرادوا، ومن ثم إسقاطه ديمقراطياً وخروجه من المشهد من نفس الباب الذي دخل منه دون خراب أميركا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.