"لها قلعة شهيرة الامتناع، ثابتة الارتفاع، معدومة الشبيه والنظير في القلاع، تناهت حصانة أن ترام أو تستطاع، قاعدة كبيرة، مائدة في الأرض مستديرة منحوتة الأرجاء موضوعة على نسبة اعتدال واستواء، فسبحان من أحكم تدبيرها وتقديرها، وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها، عتيقة في الأزل، حديثة وان لم تزل، طاولت الأيام والأعوام وشبعت الخواص والعوام".
(ابن جبير في رحلته في وصف حلب)
قلعة حلب.. حتى الآن لم يعرف متى استقر أول إنسان في هذا الصرح العظيم، لكن وإن فكرنا من خلال القاعدة التاريخية التي تقول بدوام وبقاء المراكز الاستراتيجية، لتوصلنا إلى استنتاج أن القلعة مرت بمعظم الحقب التاريخية التي مرت بالمنطقة.
كما أن القلعة لعبت دوراً بارزاً في حياة مدينة حلب وأهلها، بحيث صانتها من الخراب في كثير من الأحوال، مثلاً عندما دخل الفُرس حلب خرج السكان من مدينتهم، واعتصموا داخل القلعة، وتكرر الشيء ذاته في العهد البيزنطي.
دخل العرب القلعة بحيلة الشاب دامس، وذلك في العصر الراشدي وهو بداية عصرها الذهبي، بحيث تسابق وتنافس الملوك والأمراء في عمارتها وإصلاحها وإضافة اللمسات والتحصينات إليها، ومنه بناء القلعة هيكلاً وتخطيطاً وتنظيماً دفاعياً هو عربي إسلامي، وهذا أمر لا شك فيه، يعترف به جميع العلماء.
أما أعمال الحفر والتنقيب التي أجريت فيها، قد أظهرت جدران معبد يعود إلى العهود الحثية السورية (القرن التاسع أو الثامن ق.م)، وبجواره قطعة هامة جداً من الحجر البركاني الأسود، نرى من خلالها تمثيلاً للاهوت الذي كان معظماً في حلب، والذي هو إله العدل وإله الوقت والإله الثالث حدد وهؤلاء الثلاثة يمثلون الثالوث المقدس الحلبي.
إضافة إلى نواويس رومانية وبيزنطية وصهاريج من أيام جوستنيان، وكان فيها كنيستان، إحداهما قبل أن تبنى كانت مذبحاً لإبراهيم الخليل فيه صخرة يجلس عليها لحلب المواشي.
إن أكثر الكتب الأثرية قد تحدثت عن قلعة حلب، والكتب المعتمدة الخاصة بحلب، وهي (الأعلاق الخطيرة، والدر المنتخب، وكنوز الذهب، ونهر الذهب، وأعلام النبلاء)، بدأت حديثها عن تاريخ قلعة حلب، من خلال بدايتها بقول لابن شداد: "أعلم أن القلعة التي كانت بحلب قد قيل إن أول من بناها ميخائيل، وقيل سلقوس الذي بنى مدينة حلب".
ولا يعلم من هو ميخائيل هذا، أما سلقوس فهو سلقوس نيكاتور القائد اليوناني الكبير الذي استقل بأحد أقسام إمبراطورية الإسكندر، الثلاثة بعد وفاته، ذلك القسم الذي سُمي (المملكة السلوقية) نسبة إليه.
قام سوفاجيه بدراسة هذه الجملة بإمعان في كتابه "حلب"، وقارن مستعمرة بيرويا التي بناها سلقوس نيكاتور شرقي تل حلب، بالمستعمرات التي بناها اليونان في سوريا، والتي كانت كلها مزودة بقلعة، وخلص إلى القول إن (موقع القلعة الحصين المتوج لتلة صخرية، يعود إلى نظام في التحصين استعمله العهد الهيلينيسي، مع تفضيل واضح، وأن تخطيط الجبهة الشرقية للسور يدل على رغبة جلية في الإفادة من هذه النقطة المشرفة للدفاع. فاقتنع عندئذ أن إشارة المصادر العربية إلى أن سلقوس نيكاتور قد بنى القلعة).
ومن الجدير بالذكر أن الولاة وأمراء جند قنسرين وحلب في العهود (الراشدي والأموي والعباسي) حتى زمن استيلاء سيف الدولة على حلب، وبداية الصفحة الجديدة فيها، أن هؤلاء الولاة والأمراء لم يقيموا بالقلعة الحلبية، بل سكنوا بقصور خاصة بهم.
أما سيف الدولة الذي كان غائباً عن حلب ويسكن في قصره الذي بناه، سكن القلعة التي لم يكن لها حينئذ سور عامر، فاهتم بعمارتها وتحصينها، كذلك أضاف ابنه سعد الدولة لمسات أخرى وسكنها.
وهكذا أعطى سيف الدولة وابنه للقلعة صفة جديدة ستحتفظ بها خلال القرون التالية أنها صفة (مقر إقامة الأمراء)، كانت عرضية خلال عهد الدولة الحمدانية، ثم غدت قطعية مع المرداسيين، فاضطروا هم ومن أتى بعدهم من ملوك في جعلها مدينة ملكية عظيمة وصفت بـ"مدينة داخل مدينة".
وقد أشاد الكتّاب والباحثون بدور نور الدين الزنكي وابنه بدورهما في ترميمها، وإضافة السور من جديد وتحسينه ومن بعدهما أعمال الملك الأيوبي غازي بن صلاح الدين؛ حيث إن الأدلة تقول:
– إن أقدم الآثار الموجودة في القلعة حالياً هي من أيام الظاهر غازي.
– إن العمل فيها استغرق نيفاً وعشرين سنة من الزمان.
– جميع الذين كتبوا عن حلب أشاروا إليها وأثنوا عليها، وخصصت صفحات عند سوفاجيه والصواف، ولدى كل من ابن شداد والبتروني والغزي وهرزفلد والطباخ.
سقطت دولة المماليك ومعها حلب بيد العثمانيين، بعد معركة "مرج دابق" الشهيرة، حينها يذكر أن القلعة كانت خالية من حاميتها وبمسرحية هزلية تمثلت بشخص عثماني (جندي) أعرج، وفي يده دبوس خشبي، قام بدخول القلعة والاستيلاء على كنوزها.
تضاءل دور القلعة كحصن دفاعي ملكي، مع دخول العثمانيين إليها وبداية عهدهم في حلب والمنطقة؛ حيث لم يضَف بها ذاك الوقت أي تحسين فظلت تقريباً على ما هي عليه سابقاً، بسبب أن القلعة لم تعد تتوافق مع وسائل القتال الجديدة في ذاك العصر، وغدت وسط المدينة إلا أنه نظراً لأهميتها كان يعين لها حاكم خاص مستقل عن (باشا ولاية حلب)، وكانت أحياناً مقر هذا الباشا.
سكن القلعة العديد من السكان، ومنهم الآن العائلات التي أطلق عليهم (آغا القلعة والقلعجي).
وإلا الآن من يقف أمامها يرى العصور المختلفة، يرى التطور والانكسار، يمر بكل أمير وحاكم وجندي، يستمع لضجيج الحياة فيها، ومع سنوات عصرنا هذا لم يختلف عليها شيء، ولم تتهاون بصمودها، مرت حولها حرب همجية ربما أعادتها لذكريات المغول والتتار، إلا أن تاريخها بقي الأقوى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.