الأخت الكبرى رحمة ومحبة، وهي مثل الخطة البديلة التي تشعرك بأنك إذا خسرت كل شيء، فلديك بعد الخسارة مخزن سري للمحبة، وقد تنجو.
سألني ابني فجأة: هل تفضلين أن تكوني الابنة الصغرى في العائلة أم الابنة الكبرى؟ قلت بسرعة ومن دون تفكير طويل: الصغرى طبعاً، وكما توقعت فقد جاء السؤال التالي: لماذا؟ فقلت لأن الابنة الصغرى تحظى باهتمام ورعاية وتدليل الجميع على عكس الكبرى التي توكل لها مهام والتزامات أكثر، فضلاً عن أنها تتحول إلى قدوة ونموذج تحتذي به باقي الأخوات غصباً عنها، وهذا يفرض عليها نمطاً معيناً من السلوك يتميز بالالتزام والمسؤولية والنجاح في الدراسة والحكمة والهدوء.
كان واضحاً أن أجواء العطلة ولقاء الأهل والأخوات هو ما أوحى لابني بهذا السؤال، وربما لاحظ كم هو محظوظ لكونه الأصغر بسبب اهتمام الجميع به وملاعبتهم له.
حدثتني أمي – رحمها الله- أن أختي الكبرى تولت مسؤولية البيت وهي في سن ثماني سنوات؛ لتتحول مع الوقت إلى أم صغيرة ترعى شؤون إخوتها وأخواتها ووالديها.
كانت أمي تمرض بعد كل ولادة وتمكث في المستشفى لأشهر أحياناً، وكانت أختي في هذه الأثناء تحمل مشاغل البيت جميعها على عاتقها، بما فيها رعاية الرضيع الجديد، والغسل والتنظيف والطبخ، مما اضطرها في النهاية إلى الانقطاع عن الدراسة في سن مبكرة.
بعد وفاة أمي تحولت هذه الأخت إلى أم بديلة، يتوقع منها كل ما كان يتوقع من الأم وتتصرف نحو سلوكها، وعندما يستجد خلاف أو نزاع بين الإخوة فهي المكلفة بالتدخل لحله، وإذا عدت من المهجر إلى بيت العائلة وجدتها في استقبالي كما كانت أمي تفعل، والحقيقة فهي توفر حالة سلام وأمان للجميع، كباراً وصغاراً، لما تتميز به من هدوء وصبر وقدرة على الاستيعاب والتسامح.
الأخت الكبرى رحمة ومحبة، إلا أنني كلما نظرت إليها تألمت، فهي لم تحظَ بما حظينا به من فرص، ولم تتلق تعليماً مثلنا، ولم تتمتع بما تمتعنا به من حرية وانطلاق وقدرة على الاختيار، وعندما تقدم لها من اعتقدت العائلة أنه مناسب، تزوجت وأنجبت وعاشت في بيتها بلا آمال كبيرة غير تربية الأبناء.
رأيت نماذج كثيرة من أخوات كبريات ضحين بأنفسهن من أجل باقي العائلة، بعضهن تحولن ليس فقط أمهات لأخواتهن الصغيرات، وإنما أيضاً أمهات لأمهاتهن وآبائهن، بعد أن يقعدهم المرض أو العجز، وإذا كانت أختي الكبرى قد تزوجت في سن مبكرة فهناك من حوّلتها ظروفها إلى كبش فداء، ولم تتزوج أبداً، بتواطؤ خفي من أفراد العائلة الذين لا يتخيلون حياتهم من دونها.
الأخت الكبرى رحمة ومحبة، وهي مثل الخطة البديلة التي تشعرك بأنك إذا خسرت كل شيء، فلديك بعد الخسارة مخزن سري للمحبة، وقد تنجو.
أحببت الأخوات الكبريات جداً، ولم أتمن أن أكون محلهن، هن المعطاءات الجميلات، فكثيرون منا لا يملكون صبرهن ولا تضحيتهن ولا قدرتهن على نكران الذات.. من له أخت كبرى فقد أحبته الحياة.
– تم نشر هذه التدوينة في موقع صحيفة العرب
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.