كيف ساهمت المقاهي المصرية في قيام ثورة 1919؟

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/10 الساعة 12:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/10 الساعة 12:17 بتوقيت غرينتش

ساعدت المقاهي القاهرية، التي فتح المهاجرون الأوروبيون لمصر في القرن التاسع عشر الكثير منها، في تشكيل بنية طبقية جديدة والمساهمة في نقل البلاد إلى الحداثة.

لا تزال المقاهي مؤسسة رئيسية في المجتمع والحياة الاجتماعية وحتى السياسية في مصر – فضلاً عن منطقة البحر المتوسط بالكامل.

في مصر، تعود جذور هذه المؤسسة إلى القرن السادس عشر، ولكن تغييراً كبيراً حدث في بداية القرنين التاسع عشر والعشرين، بحسب ما ذكر تقرير لصحيفة هآرتس الإسرائيلية.

في تلك السنوات، دخل الأوروبيون الحياة السياسية والاقتصادية في مصر، في حين تبنت النخب المصرية أفكاراً وعادات متفتحة. فمنذ عام 1882، عززت بريطانيا تدريجياً سيطرتها على البلاد، في حين ظلت مؤسسات الدولة موجودة بشكلٍ متوازٍ، بينما أجريت مجموعة من الإصلاحات الجذرية.

في تلك الفترة، استثمر حكام مصر موارد هائلة في تطوير البلاد، وخاصة القاهرة. توسعت المدينة خارج البلدة القديمة، وفقاً لأنماط التخطيط والعمارة الفرنسية والإيطالية.

جذب التحسن الاقتصادي مئات الآلاف من المهاجرين من إيطاليا، واليونان، وفرنسا، وبريطانيا، وسوريا إضافة إلى العديد من المدن المصرية الأخرى. وكثير منهم فتح مئات المقاهي على الطراز الأوروبي في الأحياء الجديدة. انضمت هذه المقاهي إلى عدة مئات من المقاهي المصرية العثمانية في المدينة القديمة والقريبة.

مثل الأحياء الجديدة في القاهرة، استلهمت المقاهي الجديدة الأنماط الإيطالية، واليونانية والفرنسية، وكانت مختلفة كثيراً عن منافسيها من المقاهي المصرية-العثمانية. وقد افتتحت المقاهي الجديدة في مباني كانت أيضاً قد بنيت وفقاً للطرز الإيطالية والفرنسية.

ثانياً، جلب المهاجرون معهم تقاليد جديدة تتعلق بثقافة الترفيه والطعام. كانت المقاهي المصرية العثمانية تقدم أساساً الشاي والقهوة، بينما قدم بعض الوافدين الجدد أيضاً المشروبات الكحولية والكيك والحلويات الأوروبية مثل معجنات الميلفوي، والمارون جلاسيه والآيس كريم، إلى جانب حلويات مألوفة مثل الخشاف، الذي كان يعتبر من المشروبات النخبوية.

في المقاهي المصرية العثمانية كان من المعتاد عزف الموسيقى، والاستماع إلى الحكَّائين أو قراءات الشعر، ومشاهدة عروض مسرح الظل. في المقاهي الجديدة، كانت الفرق تتألف في معظمها من النساء، وكانت الموسيقى الخفيفة الغربية والعربية تُعزف، بينما يرقص الرجال والنساء معاً. بدأ بعض أعظم المطربين العرب، مثل أم كلثوم، مسيرتهم الفنية في المقاهي. وكان تدخين النرجيلة ولعب الورق، وألعاب الطاولة، وقراءة الصحف من أساسيات كلا النوعين من المقاهي.


التسلسل الهرمي الجديد

جذبت المقاهي الجديدة كلاً من المهاجرين الأوروبيين والمصريين المعجبين بالثقافة والطراز الأوروبيين. ولكن شرب الخمور في الأماكن العامة واختلاط الرجال بالنساء في الأماكن العامة كان منتقداً بصورة واسعة. في ذلك الوقت، ارتبطت "الثقافة الأوروبية" بالمجتمع الراقي من ذوي النفوذ، سواء من بين البيروقراطية الاستعمارية أو النخب المصرية.

في الواقع، أصبحت بعض المقاهي الجديدة أماكن التجمع العادية لتلك الفئات الاجتماعية. وفي الوقت نفسه، كان يُنظر للمقاهي المصرية-العثمانية التقليدية بشكل متزايد بوصفها ملتقى أهل الطبقات الدنيا عتيقي الطراز. كانت تسمى بـ"المقاهي الشعبية" أو "البلدية"، مما يشير إلى أصالتها المصرية.

وهكذا، بحلول بداية القرن العشرين، كان هناك تسلسل هرمي واضح للمقاهي. الرجال والنساء من النخبة العليا كانوا بالكاد يترددون عليها؛ واستمروا في الاجتماع في قصورهم الخاصة أو نواديهم الخاصة. وكان يتردد على المقاهي "الأوروبية" أبناء الطبقة المتوسطة العليا، سواء الأجانب أو المصريين. بينما كان يتردد على المقاهي الأقل منزلة، سواء "الأوروبية" أو "الشعبية" أو تلك التي تمزج بين الاثنين، أبناءُ الطبقة المتوسطة الدنيا، بما في ذلك البوهيميون والمثقفون والكتاب والفنانون – وخصوصاً الموظفين والطلاب والمهنيين.

أما المقاهي من الدرجة الدنيا، فضلاً عن أوكار الحشيش والخمور، فكانت مرتع العمال والطبقة الدنيا. عززت المقاهي التفرقة الطبقية، لأن الرجال (في الغالب) كانوا يلتقون بأقرانهم ويرتدون ثياباً متقاربة، ويأكلون ويشربون بنفس الطريقة، ويمارسون نفس الأنشطة ولديهم اهتمامات مشتركة.

علاوة على ذلك، كانت المقاهي هي المكان الذي يتحدث فيه الأصدقاء والمعارف، ليس فقط عن حياتهم الشخصية، ولكن أيضاً عن الأحداث السياسية في البلاد. كما كانت المقاهي أيضاً المكان المفضل لقراءة الصحف. ففيها تشكل العالم السياسي للطبقة الوسطى من خلال الصحف – مقابل المجلات النخبوية. وكانت أيضاً ملتقى النقاد والصحفيين ومقر ممارستهم الكتابة في كثير من الأحيان.

لذا، انتاب السلطات شغف واضح للمتابعة المتواصلة لما يدور في المقاهي؛ كي تتمكن من تقييم الرأي العام -وهو ما شكّل مبدأً جديداً نسبياً آنذاك- والسيطرة على الحركات السياسية التي تهددها.

من أجل تلك الغاية، أدار النظام أجهزته الاستخباراتية، سواء من خلال البوليس السري المصري، أو المخابرات العسكرية البريطانية، أو العملاء السريين الذين يبلغون مباشرة ما توصلوا إليه للحاكم المصري، الذي يحكم البلاد تحت الحماية البريطانية. على سبيل المثال، العميل رقم 294، وهو عميل سري كان يبلغ الخديوي عباس حلمي الثاني (الذي حكم خلال الفترة من 1892 وحتى 1914) مباشرةً، بما تنصت عليه من المحادثات التي تدور في المقاهي "البلدية" في القاهرة القديمة. وفي عامي 1901 و1902، أبلغ أكثر من مرة عن أشخاص يبحثون عن علاقات وساطة مرتبطة بالمحكمة الملكية؛ للحصول على لقب نبيل، أو وظيفة، أو مصالح مالية عن طريق الاحتيال.

كما أبلغ أيضاً عن فساد مسؤولين بالمحاكم أو بالحكومة، والفضائح السياسية، وبصورة أساسية عن المحادثات التي تدور بين الصحفيين الذين كانوا يتفاخرون بكتاباتهم ضد النظام المصري ويدعمون زيادة التدخل البريطاني في البلاد، وهو ما اعتبروه من وجهة نظرهم حرية معهودة للصحافة.

احترس من البوليس السري

صار أبناء الطبقة المتوسطة المصرية، خاصة الطلبة، ناشطين في الحركة القومية المصرية الناشئة، حسب ما شوهد آنذاك في مقاهي القاهرة. وفي الفترة بين عامي 1908 و1910، تنصت البوليس السري على المحادثات والخطابات التي يتداولها الناشطون القوميون في المقاهي. فقد استمعوا إلى الشكاوى ضد الحاكم المصري وضد البريطانيين، الذين لم يفعلوا سوى إحكام قبضتهم على مصر. وصلت الحالة إلى ذروتها بعد الحرب العالمية الأولى، والتي فرض خلالها البريطانيون حكومة عسكرية على البلاد.

في عام 1919، اندلعت سلسلة من التظاهرات الكبيرة والإضرابات التي قام بها المسؤولون والطلبة والعمال، والتي عُرفت فيما بعد بثورة 1919، والتي طالب المصريون فيها بإنهاء الاحتلال البريطاني لمصر ومنحها استقلالها. راقبت الاستخبارات العسكرية البريطانية عن كثب المناسبات والمحادثات التي تدور في مقاهي القاهرة، لا سيما "الجديدة" منها. كانت الطبقة المتوسطة، رغم ذلك، تتحدث عن التظاهرات والإضرابات والجهود من أجل الحصول على دعم دولي لتحقيق الاستقلال.

إلا أن المقاهي كانت مكاناً للتنظيم وتبادل المعلومات بالتأكيد مثلما كانت مكاناً للحديث. كان الطلبة يوزعون منشورات عن الأحزاب القومية المتنوعة، أو عن لجان التظاهرات والإضرابات، أو كانوا يلصقونها على أبواب المقاهي. في السادسة مساءً من كل يوم، كانت المنشورات، التي أطلق عليها "البريد"، تصل. وكانت تُقرأ بصوت عال. وفي بعض الأحيان كان الطلبة يصعدون فوق المناضد ويصيحون بالشعارات أو يشرعون في إلقاء الخطابات.

وكانت التعليمات المتعلقة بالتظاهرات والإضرابات أيضاً تُوزع في المقاهي. وفي أغسطس/آب 1919، انضم حتى اتحاد نُدُل المقاهي إلى الإضرابات لفترة قصيرة. حظر الجيش البريطاني توزيع "البريد"، إلا أن الناشطين وزعوا المنشورات سراً في المقاهي. وبعد فشله في تحقيق مراده، تخلى الجيش البريطاني في غضون أيام قليلة عن جهوده لكبح جماح النشاط القومي في المقاهي.

وهكذا جسدت مقاهي القاهرة التغير الاجتماعي السريع في مصر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. كانت المقاهي -"الجديد" منها و"القديم"، و"الأوروبي" منها و"الشعبي"، بل و"الفاخر" و"الرديء"- جميعها منتجاً للقادة الثقافيين الاجتماعيين المصريين والأوروبيين. فقد شكّلوا بنية طبقية جديدة، ومزيجاً عرقياً واجتماعياً جديداً.

صارت المقاهي مهد الطبقة الوسطى الحضرية الجديدة، وكلما تكاتفت جهود الحركة القومية المصرية، استضافت المقاهي هذه الجهود، مثلما شوهد في ثورة 1919.

-هذا الموضوع مترجم عن صحيفة Haaretz الإسرائيلية. للاطلاع على النسخة الأصلية، اضغط هنا.

تحميل المزيد