لم أحرق الكتاب يا جدي

لم أحرق الكتاب يا جدي لكنه لم يصمد أمام بؤس الواقع، فالواقع هو المحك الذي تتهاوى تحت قدمية كل الأيديولوجيات والأفكار، قد يبدو غريبا للبعض أن أكتب عن ذلك الماضي البعيد وفي الحاضر ما يغني عن استحضار الماضي.. لكن من قال إن هذه حكاية الماضي فقط؟!

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/01 الساعة 04:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/01 الساعة 04:40 بتوقيت غرينتش

كان ذلك في خريف عام 1984 عشية سفري الأول إلى الاتحاد السوفييتي مبتعثا من قبل الحكومة لدراسة الطب ضمن برنامج المنح التي كانت توفرها موسكو للعديد من دول العالم في إطار تنافسها مع واشنطن لكسب عقول وقلوب مريدين جدد في أوج استعار "الحرب الباردة" بين المعسكرين..

لقد كان السفر في تلك الأيام حدثا ينشغل به الأقارب والأصدقاء خاصة في المجتمعات الريفية التي كان السفر فيها ترفًا ليس متاحًا لمعظم الناس، فكان يؤم بيت المسافر الأقارب والأباعد مودعين، يلقون على مسامعه أمنياتهم ونصائحهم وقد تتبعه قافلة منهم إلى المطار مودعين وربما حالمين بسفر قادم.

جاء الكثيرون لوداع ذلك الفتى الذي لم يكن قد غادر بلدته من قبل، ولم يعرف العالم خارج حدود البلدة، إلا بمقدار ما أسعفته به الكتب التي أدمن استعارتها من مكتبة المدرسة والتي كان شغوفا بقراءتها، لكن وداعًا واحدًا كان له طابع خاص بعيدا عن دموع الأعين وأمنيات الألسن، كان ذلك جدي لأمي، ذلك الشيخ المثقف والموسوعي والذي لم تزل كلماته الأخيرة يتردد صداها في أذني إلى يومنا هذا "أحرق الكتاب" كناية عن صم الآذان عن أفكارهم وإغلاق النوافذ دونها.

ذهبت إلى ذلك المجهول الذي لم أكن أعرف عنه شيئا إلا من خلال ما كتبه عنه أتباعه، راسمين له صورة مغرقة في الرومانسية أو من خلال كتابات خصومه الذين بدورهم لم يبخلوا عليه بكل قبيح ولا أظن أن أيًّا منهم قد وفق لرسم صورة حقيقية عن ذلك البلد.

لقد تغلب الفضول المعرفي لديَّ على مخاوف ووصية جدي فوجدتني أبحث بشغف محاولا الغوص في الفكر الذي أسس لإحدى أهم الثورات في تاريخ البشرية، فهأنذا تراني غير مكتف بما كان مقررا لنا من دراسة تاريخ الحزب، والاقتصاد السياسي وعلم الإلحاد لأقرأ كثيرا مما كانت تترجمه وتنشره دور النشر السوفييتية المختلفة وما لم أجده مترجما حاولت قراءته بلغته الأم. حاولت دراسة هذه الكتب دراسة الناقد والباحث عن الحقيقة تحت ركام هائل من التهويل والشعارات البراقة، ولا أكتمكم أن كثيرا من الأفكار كانت تمتاز بالجاذبية، خاصة لدى الشباب المتمرد والناقم على العالم والحالم بتغييره للأفضل.

لكن تلك الافكار الجذابة والشعارات البراقة عن العدالة والمساواة والتحرر والانعتاق من تغول رأس المال لم تصمد طويلا أمام الواقع الذي يعيشه الناس خارج صفحات الكتب وحروف الشعارات.

فأي عدالة ومساواة في مساواة الناس في البؤس والفقر وأي تحرر في استبدال طغيان رأس المال باستبداد الدولة/الحزب واجهزتها القمعية، وأي حديث عن الرفاه وطوابير الناس تقاسي البرد أمام أبواب المخازن الخاوية، أي رفاه وجثث السكارى المتجمدين من البرد تجمعهم سيارات البلدية بالمئات كل صباح.

أي فكر وأي أيديولجية مهما كانت جذابة لن يصمد أمام الواقع، وآلاف الكتب المرصوفة في المكتبات لا يمكن أن تلغي مفعول منظر آلاف الناس يصطفون يحرسون واجهات المحال الفارغة.
لم أحرق الكتاب يا جدي لكنه لم يصمد أمام بؤس الواقع، فالواقع هو المحك الذي تتهاوى تحت قدمية كل الأيديولوجيات والأفكار، قد يبدو غريبا للبعض أن أكتب عن ذلك الماضي البعيد وفي الحاضر ما يغني عن استحضار الماضي.. لكن من قال إن هذه حكاية الماضي فقط؟!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد