قراءة سريعة حول مفهوم “العلمانية”

طيب.. ماذا عن الذين يسألون عما هو مرجع العلمانية؟ وعلى ماذا تستند فلسفتها وتشريعاتها؟ الجواب بسيط، فالعلمانية مرجع تشريعها هو المصلحة العامة وليس النص، طبعاً دون أن يمنع ذلك من الاستفادة من النصوص طالما أنها لا تتعارض مع المصلحة العامة التي تقاس على الجميع.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/23 الساعة 04:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/23 الساعة 04:27 بتوقيت غرينتش

العلمانية، تلك الكلمة التي أصبحت تشكل ما يشبه الكابوس لدى أغلب الجمهور العربي، فانقسمت الآراء وأحدثت شرخاً في وجهات النظر بين مؤيد ومعارض، يميني ويساري، متحرر ومتشدد، فمجرد ذكر كلمة "علماني" حتى يتم التغاضي عن المفاهيم والفلسفة الخفية التي تحويها العلمانية، إضافة إلى إمكانية العلمانية على بناء الحضارات وصنع الأمجاد وصياغة دساتير جديدة لدول كثيرة استطاعت على أثرها اجتياز الكثير من العقبات السياسية والدينية منها خصوصاً؛ ليتم ربطها بالشذوذ والانحراف، وفي حالات كثيرة يتم ربطها بالإلحاد أيضا!

طيب كيف سنرد إذا ما ربط أحدهم الدولة العلمانية على أنها دولة إلحادية؟ الجواب هو يكمن بالعودة إلى التاريخ قبل سبعة عقود، فالدولة الإلحادية هي تلك التي أسستها الشيوعية وفُرضت بالقوة على جمهوريات الاتحاد السوفييتي، وفرضت الاشتراكية كنظام اقتصادي ومنعت الناس من أداء طقوسهم الدينية على اختلافاتها؛ حيث إن السياسة السوفييتية التي كانت ترتكز على أيديولوجيا وفلسفة الماركسية واللينينية اللتين جعلتا من الإلحاد المذهب الرسمي للاتحاد السوفييتي، فتم هدم الكنائس والمساجد والمعابد أيضاً، واضطهادات وإبادات وإعدامات، واغتيالات وحرق وقتل لكل مَن يظهر عليه أي ميول ديني.

حيث يقدر عدد الضحايا لسياسة الاتحاد السوفييتي الإلحادية بما بين 12 و20 مليوناً من المسيحيين فقط!

وهذا ما فعله وفرضه الرفيق ستالين أحد أبرز زعماء الشيوعية؛ حيث إنه كان يمنع الناس بالقوة أو التهديد بالسبي أو النفي أو الطرد أو القتل من الذهاب إلى الكنيسة الأرثوذكسية لأداء الصلاة أو حضور القداس، ولكن شتان ما بين ذلك وبين ما تنصّ عليه العلمانية!

لكن التقصير يقع على الحركات العلمانية العربية في توعية الشعوب حول ماهية العلمانية الحقيقية، وكيف يجب أن تكون.

الكثير من الحركات العلمانية العربية هي علمانية "ظاهرياً"، بينما "باطنياً" لا تطبق أياً من تعاليم ومنهجيات العلمانية التي تستند على أسس العدل والمساواة بالمقام الأول، والتحرر من القيود التي أوجدتها الأديان والتي تخالف وتناقض زمنياً وثقافياً وحضارياً ما تعيشه المجتمعات الأخرى التي نحن متأخرون عنها "زمنياً" بناءً على أننا نعيش بالقرن الحادي والعشرين.

العلمانية تنادي بالمحاكاة بين التطور المعرفي والعلمي والتقدم التكنولوجي الهائل الذي نعيشه، وبين العقل تلك الماكينة التي قد تعطلت للأسف داخل رؤوس الكثيرين.

الحركات العلمانية العربية ربما تجهل أننا بحاجة إلى التغيير والتطبيق الفعلي وغسل الكثير من العقول التي قد تسمّمت بأفكار الحركات الإخوانجية والسلفية أكثر من الجلوس واستخدام مواقع التواصل للسخرية والاستهزاء على الدينيين والمتعصبين فكرياً والمتزمتين بالعادات والتقاليد، فذلك هو أكثر ما يشغل بال العلماني العربي.

العلماني العربي لا يعرف عن العلمانية سوى أنها تنادي بالفصل بين الدين والحكومة، فهمه الوحيد هو الاستهزاء والسخرية من الدينيين والمتعصبين منهم، لكن لا يعرف شيئاً عن احترام العلمانية لجميع الأديان والمعتقدات، واحترامها أيضاً لجميع وجهات النظر واختلاف الرأي!

العلماني العربي لا همَّ له سوى الطعن بالأديان وتهجمه على "الإيمانيات" عند الآخرين بأسلوب غير لبق نوعاً ما، ولكن ذلك ليس ما تضمنته وتدعو إليه العلمانية.

العلمانية هي فلسفة تنادي باحترام الجميع، وتمنحهم الحرية في ممارسة أية شعائر يريدونها دون أن تتم الإساءة إليهم، هي نتيجة واقعية عن تجارب الصراع بين رجال الدين والمجتمع من جهة، ورجال الدين بين بعضهم من جهة أُخرى، هي نتاج معرفي قائم على احترام الأديان ومحاججة أتباعها المتعصبين منهم على وجه الخصوص، بالمنطق والدليل العلمي لا بالحيلة والبدعة.

حركة العلمانية حركة وعي ثقافي، جوهرها العقل والوعي العلمي القائم على الأدلة، وتستنزف الجهد في الشأن الحياتي لجعله أفضل، يجب التوعية أكثر لذلك؛ لأن العلمانية لا تمنعك من الاعتقاد بأي دين أو فكر تريده، لكنها ستوقفك إذا حاولت الاعتداء على فكر غيرك!

العلمانية هدفها التعايش الإنساني وليس خلق صراع جديد من أجل إثبات تمرّدك وتميزك كشخص متحضر، ولكن بقناع زائف.

العلمانية تعني الحوار بمنطق وعقل وليس السب والشتم وخلق حجج وهمية من أجل محاولة إثبات وجهة نظرك ومنطقك.

العلمانية تعني فكرة التعايش مع ثقافة القرن الحادي والعشرين، والسير على مبادئ التبادل الفكري والثقافي بين الشعوب التي وصلت إلى أوجها في المجتمعات الغربية (بغض النظر عن السياسة الخارجيّة)، لكن عوضا عن ذلك، يستمرون بقفي خطى أشخاص لا يعلمون فقه التعاطي، فاحترام حرية الآخر هو مبدأ مقدس لا يجب المساس به طالما لا يلحق الأذى أو يفرض أي رأي معاكس لإرادة الآخرين.

كذلك الكثير من الحركات العلمانية العربية لا تطبق الديمقراطية، ولا يجيدون حتى التمييز بينهما، الديمقراطية هي توأمة العلمانية، لا تجوز الديمقراطية بدون العلمانية.

العلمانية تقضي بإبعاد الأديان عن السياسة؛ لأن بدون هذا الإبعاد يبقى الفكر مقيداً بالتوجه الديني وغير متحرر، ونرى مثالاً حياً في العراق ومصر وتونس؛ حيث تمت فيها الانتخابات التي حدثت خلال السنوات المنصرمة بشكل ديمقراطي دون تطبيق العلمانية، إذاً ما الفائدة؟ وماذا نتج عن عدم إبعاد الأديان؟

الجواب سيكون توجه الناخبين حسب انتماءاتهم الدينية والطائفية وبروز مجلس أمة طائفي القوام لا يمثل الغاية الحقيقية للديمقراطية والعلمانية أيضاً!

طيب والخلاصة؟ الجواب هو لا ديمقراطية بدون علمانية، وإبعاد العقائد الباطلة والقيم المتخلفة والقوميات عن السياسة؛ لأن العلمانية تعني منع وقطع أي علاقة تربط مع تجار الدين الذين مارسوا كل أنواع الموبقات المذهبية والطائفية في التاريخ العربي المعاصر بالذات، ونشروا الانقسام والتشتت والتفتت من جهة، وفي خدمة السلطان من جهة أخرى، هذا غير مجاراة ظلمه وانحرافاته وخيالاته وشهواته التي ستكون عاجلاً أو آجلاً مرخصاً بها عن طريق فتاوى لا تسمن ولا تغني من جوع، والتي هي منافية للعقل والذوق الإنسانيين، العلمانية هي الحل، وهي المنطق، وهي القانون، وهي المعرفة الكاملة.

طيب.. ماذا عن الذين يسألون عما هو مرجع العلمانية؟ وعلى ماذا تستند فلسفتها وتشريعاتها؟ الجواب بسيط، فالعلمانية مرجع تشريعها هو المصلحة العامة وليس النص، طبعاً دون أن يمنع ذلك من الاستفادة من النصوص طالما أنها لا تتعارض مع المصلحة العامة التي تقاس على الجميع.

أي أن العلمانية لا تمانع أن تستمد جزءاً من تشريعاتها من الأديان دون أن تعارض تلك التشاريع مبادئ المساواة والحرية وأسس العدل التي تقوم عليها العلمانية، فأي سياسية علمانية، هي تقتضي المساواة أمام القانون وأمام الدولة، وتمحى كلياً الفروق القائمة على الدين والجنس والعِرق واللون.. إلخ؛ حيث يصبح الجميع ودون استثناء أمام القانون!

العلمانية هي ليست فقط مجرد بناء حاجز فاصل بين الدين عن السياسة بقدر ما هو تحرير السياسة من الجمود الديني والكهنوت ورفع راية المواطنة والمساواة.

العلمانية لم تسئ لأي دين أو معتقد، كل ما في الأمر أن العلمانية يصبح الدين فيها شأناً شخصياً، جميع هذه المفاهيم والأفكار تتبلور في كنف كتب الفلسفة العقلانية التي تأسست على إخضاع المعطيات للمنهج العقلاني والبرهنة على جميع أفكارنا بالتجربة وتفنيد نظرية الأفكار الفطرية.

كما أن العلمانية والكتب التي تتحدث عنها بُنيَت على قاعدة ليبرالية تغذت على الأفكار الثورية للمتنورين أمثال فولتير ودلامبير وروسو وجون لوك، الداعين للدفاع عن الحرية والمساواة، وعن التسامح والمواطنة، وإقرار العدالة الاجتماعية والفصل بين السلطات، وهذه هي العلمانية بكل بساطة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد