جميع القيم مهدرة.. لكن الأمن مستتب!

بعد عشرة أيام من إصابة عماد العتابي، خاطبَ رئيس الدولة الجميع، وقال للجميع، إن القوات العمومية وجدت نفسها في مواجهة الساكنة بعدما انسحب الجميع، وإن المغرب فوق الجميع، وإن تقدم المغرب في كل المجالات يشهد به الجميع، وإن الافتخار بالأمن واجب على الجميع.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/02 الساعة 04:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/02 الساعة 04:05 بتوقيت غرينتش

يعتبر بناء الذاكرة التاريخية للشعوب عملاً لا منتهياً وخالداً، لذلك لا يجوز لنا أن نعتبر فترات ما بعد الخُطب الملكية وحدها الجديرة بالتفكير العميق والواعي، ووحدها التي تنتج فعلاً سياسياً أو سياسة عمومية أكثر حكامة وديمقراطية، وإنما المطلوب هو تحويل هذه العملية إلى طقس يومي إن لم يكن باستطاعتنا الانتقال بها إلى وظيفة قارّة؛ لكون الممارسة المتحايلة والمنحرفة لعنف الدولة واستبدادها يمكن أن يظهر كل يوم في هيئة مختلفة، لذلك لا تعدو أحداث ما بعد خطاب العرش، سوى حلقة أخرى من تلك الأحداث التي تعيق بشكل دوري ومستمر انتقال المغرب نحو شيء من الديمقراطية.

في الريف ماضٍ مؤلم، وهذا الألم هو ما يجعله غير قابل للنسيان والتجاوز، وأمام تحايل وانحراف المتهم الرئيسي بالتسبب في الألم، يصبح -حسب فيلسوف أرجنتيني- "تاريخ الريف حلبة صراع" ويصبح "للذاكرة غرض فدائي".

بعد عشرة أيام من إصابة عماد العتابي، خاطبَ رئيس الدولة الجميع، وقال للجميع، إن القوات العمومية وجدت نفسها في مواجهة الساكنة بعدما انسحب الجميع، وإن المغرب فوق الجميع، وإن تقدم المغرب في كل المجالات يشهد به الجميع، وإن الافتخار بالأمن واجب على الجميع.

وبعد عشرة أيام من خطاب العرش، وقبل أن يفرغ محللو النظام ومناضلوه وزعماؤه من فك شيفرات الخطاب التاريخي وما احتوى عليه من رسائل عميقة للجميع (باستثناء القوات العمومية طبعاً) حتى أسلم عماد العتابي الروح إلى بارئها، فنعته فئة قليلة، وبكته أقلية، وشيّعته إلى مثواه الأخير قلة قليلة، ليغادر جغرافيا الريف إلى تاريخه، ويصير جزءاً من ذاكرته التي ستجنّد المزيد من الفدائيين.

أَزعمُ أن أول من وصل له الخبر، هو الأمين العام لحزب الجرّار الذي يحرث أرض الدولة، وفي مقدمتها أرض الريف الذي يهيمن على شأنه المحلي، لذلك سارع إلى إمضاء استقالته من قيادة الجرار، حتى يفسح المجال أمام عمليات أخرى أصبحت أرض الريف في حاجة إليها غير الحرث، لذلك نتوقع إغراقاً وشيكاً للمزرعة السياسية المغربية بمبيدات وأسمدة وحيوانات ونباتات معدلة جينياً داخل مختبرات الدولة.

وفي هذا السياق، سيحاول المخزن البروز إلينا كفارس ينشد العدالة، ويربط المسؤولية بالمحاسبة، ويدفع الذين لم يقوموا بمهامهم كاملة إلى الانسحاب أو الاستقالة، وذلك وفق الوصفة الملكية التي جاء بها خطاب العرش، ويكون الهدف الوحيد من كل هذا إدخال عماد العتابي إلى ذاكرة الريف بطريقة سلمية ومن دون اقتطاعات سياسية وتاريخية من رصيد النظام.

سيطرأ تغيير في مواقيت التحرير والنشر الخاصة بتقارير التحقيقات الإدارية والقضائية المفتوحة، لذلك لا يُستبعد أن يكون كلام عبد الإله بن كيران في فاس ومطالبته بالتحقيق في البلوكاج السابق، استشعاراً من الرجل بأن جبهة العدالة والتنمية وحلفائه مستهدفة بالعمليات القادمة، وأن المخزن لا يبحث عن قاتل عماد وإنما عمن أخرج عماد للتظاهر ضده، لذلك فإن بن كيران سيحاول استعمال ملفاته وأسلحته من الأخف إلى الأثقل؛ لأنه لا يرضى بدفع فواتير غيره.

لمن لا يقرأ لنجيب محفوظ، نقول له إن عبقرية الرجل جعلته يطرح أسئلة فلسفية أحرجت الأنظمة العربية أكثر مما أحرجته أحزاباً وجماعات؛ بل جامعات بأكملها. ففي الأحداث الرمزية لقصة "الجريمة‏،"‏ يطرح العبقري سؤالاً فلسفيا‏ً:‏ هل يمكن أن يتحقق الأمن بإهدار باقي القيم؟

ففي إحدى المدن تكثر جرائم القتل التي تقيَّد جميعها ضد مجهول. يقرر قسم التفتيش في الداخلية إيفاد أحد ضباطها -في مهمة سرية- للتفتيش وليتحرى عن أسباب التكتم وعدم تقديم الفاعل للعدالة.

يدور حديث بين الضابط ورئيسه، ونفهم منه أن الرئيس يشك في تورط جهاز الأمن بتلك المدينة بالتغطية علي الجرائم؛ إما لأنها تتم لصالح أصحاب المال والنفوذ وإما لأسباب أخرى.

في القصة، يدور حوار عميق الدلالة، بين الضابط المشتبه فيه والمفتش المكلف التحقيق، بين رؤيتين مختلفتين لوظيفة الدولة، بين من لا يهمه سوى استتباب الأمن، ومن يرى في الأمن جهازاً لتحقيق العدالة، لذلك قال المفتش بامتعاض: "سأكتب في التقرير، أن جميع القيم مهدرة، ولكن الأمن مستتب".

تقول أدبيات أحد الأحزاب الأوروبية، ذات النزعات الانفصالية، إن الحقوق الفردية للمواطن تبقى ناقصة إذا ما كانت الحقوق الجماعية غير معترف بها وغير محترمة من طرف الدولة، لذلك تصبح المقاربة التقليدية والمحافظة للتعاطي مع الحركات الاحتجاجية المعاصرة غير ذات جدوى، خصوصاً إذا كان مركز الحركة جماعة من المواطنين تجمعهم الأرض والتاريخ واللغة والذاكرة؛ لأن هذه العناصر متى اجتمعت في وعي جماعي إلا وفرضت على الآخر الاحترام، كيف كان حجم وقوة هذا الآخر؟ لذلك نقول إن كل إهدار لحقوق الريفيين الجماعية هو بمثابة تشحيم لآلة الانفصال.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد