"إن لقيت الغريم وإلا ابن عمه"
كان العرب في جاهليتهم يعتقدون أنه ما من قاتل يقتل إلا وتخرج من رأسه هامة. فإن لم يؤخذ بثأره نادت الهامة على قبره (اسقوني فإني صدية)، أي (عطشى)، والهامة -في اعتقادهم- لا تشرب إلا من دم القاتل أو ذويه، وكثيراً ما تردد اسمها في الشعر الجاهلي، قال أبو داود الإيادي:
سُلِّطَ الْمَوْتُ وَالْمَنُونُ عَلَيْهِمُ فَلَهُمُ فِي صَدَى الْمَقَابِرُ هَامُ
وكان من عادة العرب أنهم يحرِّمون على أنفسهم النساء والدهن والغزل والقمار حتى يدركوا ثأرهم، وكان من عادتهم أيضاً أن يعقروا الخيل ويكسروا الرماح، وقد نهاهم مهلهل عن ذلك حين قتل كليب، وقال لهم: "لقد ذهبتم شر مذهب، أتعقرون خيولكم وتكسرون رماحكم، حين افتقرتم إليها".
وكان من عادة النساء ألا يبكين المقتول إلا أن يدرك بثأره، فإذا أدرك بثأره يبكينه.
وفي يومنا المعاصر، نشهد ونسمع عن شجار محلي بين عائلتين، في بلدة ريفية (وهنا لن نورد حوادث بعينها، بمكانها وزمانها وشخوصها، فهي كثيرة الوقوع والشيوع، على امتداد المنطقة سابقاً وحديثاً) يُخلّف 30 قتيلاً على مدى سنوات، ويتحول من مشاجرة إلى مقتلة وثأر، أذاق الأهالي وذوي المتشاجرين، وكل من يحمل اسم العائلة من كلا الطرفين المتقاتلين.
ويعم غياب الأمان، وجو الرعب والفزع وترقب الموت في كل وقت، العيون مترصدة، والأصابع على الزناد عند أي فرصة، للتشفّي وإرواء الغليل، شباناً وشيّاباً، صغاراً وكباراً، موظفين ومدنيين، أغنياء وفقراء، بعيدين جغرافياً أو قريبين، متعلمين أو غير متعلمين، محترمين ووجهاء، أو رعاعاً ومنبوذين، أصحاء أو سقيمين، لهم صلات وشيجة مع العائلة أو قاطعي رحم وقربى، الآن ولو بعد مائة عام.
الكل معنيٌّ والكل مقصود، بهذه المشاجرة لأي سبب كان، وما مدى حماقتها ورعونتها، وعدم تعقلها، وهمجيتها، الجميع من كلتا العائلتين، سترصده العين، ويستقصي عنه الخبر، وتطوله اليد غيلة أو وجهاً لوجه، تدخل أجهزة الدولة، لفض النزاع، ولملمة الأمن، سيعرض أفراد الشرطة للطيش مجدداً والقتل، فلن يقف حائل مهما كان أمام التعطش للدم وسفكه؛ ليبرد الثأر الأعمى، وتعود لتبدأ الدائرة من جديد.
فيُقتل بعض أفراد الشرطة، الذين ينتمون إلى أسر وعائلات من بلدات وقرى ما، على يد المقتتلين من طرفي النزاع، فيطالب بثأرهم ذووهم ويتشعب النزاع لطرف ثالث. ويُفقد الأمن في بقعة أخرى، من البلاد ويعم الخوف والذعر والموت والفقد، ولا يتوقف حمام الدم المجنون الأعمى ذاك، إلا بتدخل قوات حاشدة لأجهزة الأمن في الدولة؛ لتكف الجميع، بالقوة المفرطة، عن الاقتتال، وتكف الأيدي فترةً.
ولكن القلوب مغتاظة، حاقدة، والأعين متيقظة لفرصة مواتية، وتمر الأيام والسنون، ولا تبرد تحت الرماد جمرات الثأر، ويقطع هدوءَ الخوف البارد قتلُ ضحية جديدة، في فرصة مواتية، وتشتعل الأحقاد وتهيج الثارات قديمها والجديد، وتعود الدوائر تدور حول بعضها وتتشعب، ويغيب الأمن والأمان، والعقل والتعقل، والتقدم والاحتكام لوجوهه؛ القانون، والسلطات التنفيذية، أو اللجوء إلى الوجاهات والحكماء المحليين، لفض النزاع حسب العرف.
ولكن يغيب كل ذلك، وتحضر الرعونة والطيش والجريمة وإطلاق يد القاتل، ويستتبع بالضرورة تلك الجرائم وكمّ الضحايا، آثارٌ اجتماعية ونفسية، من نافلة القول ذكرها؛ فهي أبدى وأوضح، فوراء كل فقيد أيتام وأرامل ومُعَالون فُجعوا بمُعِيلهم، وبات الأخير في السجون، يقضي سنوات حكم الإدانة، ليخرج إما مطلوباً لثأر، أو طالباً لثأر، أو كليهما معاً!
هذا فضلاً عن الصدمات النفسية السيئة، لأفراد الأسر، لا تتعافى منها، وإن حصل فهو نتيجة علاج ومتابعة علمية، وذلك ما لا يحصل. والأشد سوءاً الإرث المأساوي الذي يُترك للأجيال اللاحقة، لتتلقنه وتحاكيه، وتعيد إنتاجه مرة أخرى، عند أول فرصة في مشاجرة بسيطة، لسبب قل أو كبر، ويحضر الطيش، وتحضر الهمجية، وتحضر الجريمة.
ونورد هنا كلام الأستاذ أحمد أبو زيد صاحب أول دراسة عربية عن الثأر نُشرت عام 1965 (الثأر، دراسة أنثروبولوجية بإحدى قرى الصعيد، منشورات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، القاهرة: دار المعارف بمصر): "يحدث الثأر في المجتمعات المغلقة التي تقوم على الروابط القرابية والضبط الاجتماعي غير الرسمي. ففي تلك المجتمعات يسود العرف وعدم الاكتراث بآليات الضبط الاجتماعي الرسمي ممثلاً في القانون والشرطة. وفي مثل هذه المجتمعات، يبدو حضور الدولة ضعيفاً وهشاً، ولا يكترث الناس بأجهزة الشرطة ويتجنبون التفاعل معها.
ممارسات الثأر تقوم على نظام اجتماعي ينبغي فهمه بعمق، حيث يقوم نظام الثأر على مجموعة من القواعد المنظمة للعلاقات الاجتماعية والممارسات والقيم المرتبطة بالثأر والتي يتداولها الناس فيما بينهم اجتماعياً وتنتقل بينهم عبر الأجيال. ويحظى الثأر بقبول مجتمعي بموجب كونه يلبي حاجات اجتماعية واقتصادية وثقافية سائدة. فالثأر ليس مجرد جريمة قتل تُرتكب عشوائياً لإشباع رغبة في الانتقام أو القصاص لجرم سابق؛ بل هو نظام اجتماعي متماسك له ملامحه الأساسية ومبادئه الخاصة التي تحكمه.
ومن أهم ملامح هذا النظام، أن كل من يُقتل لا بد أن يُؤخذ بثأره عن طريق قتل شخص واحد فقط من الطرف المقابل، وأن الاعتداء على حياة شخص يعتبر اعتداء على الجماعة القرابية التي ينتمي إليها، كما أن جماعة المعتدي تكون مسؤولة ككل عن اعتدائه. ولا يؤخذ بالثأر إلا من الذكر البالغ الرجل القادر على حمل السلاح وعلى الدفاع عن نفسه.
ويقوم الثأر بين الوحدات القرابية المتمايزة، فليس ثمة ثأر في الجماعة القرابية الأبوية (البدنة) إلا في حالات نادرة أو حين تتفرع الجماعة القرابية الأبوية الكبيرة إلى وحدات أو بدنات صغيرة، مستقلة اقتصادياً وسياسياً إحداها عن الأخرى.
كما أن المساواة في الخسارة عامل أساسي في حسم الصراعات الثأرية، فقتْل واحد من عائلة يستوجب قتل شخص في المقابل من العائلة الأخرى. والوصول إلى نقطة التعادل في عدد القتلى هو أساس انتهاء العداوات الثأرية. غير أن قتل رب العائلة قد يستوجب، في نظر العائلة المعتدى عليها، الثأر بقتل أكثر من رجل. ولهذا فإن فرص تحقيق المساواة في الخسائر تظل ضئيلة؛ مما يترتب عليه استمرار حوادث الثأر لعدة أجيال.
تظل الدولة غير قادرة على التخلص من الثأر مهما بلغت شدة إجراءاتها القانونية والشرطية والقضائية ومهما غلظت من العقوبة. وحتى لو استطاعت الأجهزة الأمنية والقضائية الكشف عن مرتكبي حوادث القتل ومعاقبتهم بالسجن، فإن أهل المجني عليهم يتعقّبون بإصرار لا يلين أقارب القاتل حتى يتم النيل من أحدهم أخذاً بثأرهم.
وتلعب القرابة دوراً بالغاً في تعميق تضامن الجماعة القرابية الأكبر مع الأسرة المباشرة للقتيل بما يعني اتساع المسؤولية الاجتماعية في الأخذ بالثأر وتدرجها بما يؤدي إلى تفاقم الصراع الثأري واتساع نطاقه واستمراره أجيالاً طويلة.
ومن الواضح أن تقارب السكان في المستوى الاجتماعي يجعل لديهم شعوراً قوياً بأن الرجولة هي محل اعتزاز وتقدير، ومن ثم عدم تقبُّل السيطرة والخضوع لأي عائلة أو قبيلة، بحيث يعد الاعتداء على أي شخص من قبيلة ما اعتداء على رجولة القبيلة يستوجب الاعتداء بالمثل لاستعادة شرف الرجولة.
ولا تلعب المرأة دوراً أساسياً في نظام الثأر من حيث الاشتراك الفعلي في هذا النظام وإن كانت تغذيه بالحث عليه وتنشئة الأبناء الذكور على أن الرجولة تعني القدرة على الأخذ بالثأر.
كيف يمكن القضاء على الثأر في المجتمعات العربية؟
والإجابة بسيطة بالطبع، ولكنها مستعصية كالسهل الممتنع، فلا سبيل أمامنا سوى التغيير الاجتماعي الشامل للبنية الاجتماعية التقليدية التي يعمل في ظلها نظام الثأر. وفي هذا الإطار يعد التعليم، بلا شك، عنصراً حاسماً في بناء البشر على أسس جديدة تقوم على الاحترام والعمل المشترك والمواطنة واحترام سيادة القانون، وتحرر الفرد من قيود الجماعة القرابية والعصبيات التي تغذي نظام الثأر، وفق تعبير أبوزيد.
كما أن برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الشاملة كفيلة على المدى البعيد بأن تخلق مجتمعاً جديداً يخلو من الثأر. وكل ذلك يعني أن الدولة الحديثة التي نشأت في العالم العربي لا تزال غير قادرة على مكافحة الفقر والبداوة والقبلية وغير قادرة على اكتمال مشروع الحداثة" انتهى كلامه.
هذه إضاءة على النسج الاجتماعية في المنطقة، في تركيبتها وتكوينها، وتفاعلها الاجتماعي والمدني، وفي ديمومة إنتاجها، لقيمها وعلائقها وتركيبتها، قد تناولت وجهاً لوجوه التخلف، في العقل المحلي وضميره ولاوعيه ومخياله، وعن الاستعدادات لديه للاستمرار على حاله، في الاستقواء بكثرة العدد، في العشيرة والعائلة، والإقدام على الجريمة، واستمرائها واستسهالها، وإباحة ارتكابها.
بل واجب فعلها، كبطولة وشرفية، وفحولة، وقيمة عليا، وعلى الضفة المقابلة مناداته بالقيم التقدمية والمدنية والعصرية، كقيم الديمقراطية الحديثة والحداثة، وهل المناداة والتطلع والصياح، لتغيير سيرورة المجتمع كافية، ونشوء عقلية جمعية مدنية في منطقتنا؟ أم أن من الدلائل على ظهور بذورها فعلاً، مشاهدات حقيقية، على النقيض لهذه الإضاءات، للتخلف المتأصل، في النسيج الاجتماعي، أو لنكن واقعيين فنقول تغيراً تدريجياً، نحو العقلانية الحديثة، التي هي أساس المدنيات الحديثة، ولب لبابها، ومسار التقدم الحقيقي والفعلي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.