برهنت أبحاث علم النفس الاجتماعي باستمرار على أن منطق الخسارة لا الربح هو الأكثر رسوخاً في الأذهان، نحن نسعى دوماً لتجنب خسارة الأمور المهمة في حياتنا، أكثر من سعينا لربح أمور جديدة. فالإنسان بطبعه يميل إلى تعزيز السلبية أكثر من ميله إلى تعزيز الإيجابية في عقله.
ومن الأمثلة على ذلك، دراسةٌ لعالم النفس الاجتماعي آموس تفرسكي وزملائه، قدموا خلالها لمرضى وأطباء إحصائيات عن مدى فاعلية الجراحة، والعلاج بالأشعة في معالجة مرض السرطان، فقيل لنصف المرضى والأطباء إن 90% من المرضى الذين خضعوا للجراحة كُتب لهم النجاة، و34% منهم تمكنوا من تخطي فترة العلاج وعاشوا أكثر من 5 سنوات، في حين أن المعالَجين بالأشعة استمروا في العيش، ولكن 22% منهم ما زالوا على قيد الحياة بعد انقضاء 5 سنوات.
وعُرض على النصف الآخر من المرضى والأطباء المعلومات السابقة نفسها، ولكن في إطار مختلف، فقيل لهم هنا 10% قضوا في أثناء الجراحة، و66% في السنوات الخمس الأولى، في حين أن من عُولجوا بالأشعة لم يُمت منهم أحد خلال السنة الأولى، و78% في الثانية.
ورغم تزويدهم بمعلومات مشابهة -ولكن بطريقة أخرى- فإن النتيجة كانت مختلفة عند كل من الفريقين؛ فالفريق الأول: 25% منهم فضلوا العلاج بالأشعة، والفريق الثاني فضل 42% منهم العلاج بالأشعة، أي ما يقارب الضعف.
كما نلاحظ، فإن الطريقة التي نقدم بها المعلومات لأنفسنا أو للآخرين قد تشكل فروقاً كبيرة على إدراكنا ووعينا ورؤيتنا للعالم من حولنا.
ولكم أن تتصوروا حجم الكارثة التي يتعرض لها وعينا وإدراكنا في توظيف عشرات الآيات القرآنية، والنصوص الشرعية في إطار من السلبية، و"المازوخية" لتعزيز نزعة قبول الألم، والتعايش معه، والزهد بالدنيا، وتركها للكافر والفاجر كي يعيش بها وحده، فحينما تقص علينا آيات خلق آدم عليه السلام، يُركز على قول الملائكة -عليهم السلام- إن بني آدم سافكو دماء مفسدون في الأرض، وليس قول الله جل في علاه "إني جاعل في الأرض خليفة".
هذا بخلاف التركيز على أن الإنسان عابر سبيل في هذه الدنيا، وليس مستخلفاً فيها، فبقيت الحياة بعيدة عن الأماني والأحلام؛ لأنها جنة الكافر وسجن المؤمن، ويجب على هذا المؤمن أن يخرج منها؛ لأنها ملعونة ملعون من فيها، لهذا كانت شعارات الموت جزء من ملاحم الحركات الإسلامية في مجملها، وشكل أسمى أمانيها ومبتغى أفرادها.
أما حين يتم تناول ظاهرة اجتماعية مثل الأيتام والأرامل، يُصوَّر بؤسهم وبشاعتنا، جوعهم وشبعنا، نشعر بعبئهم على كاهلنا، فنجلد ذاتنا، ونسبّ ظلام نفوسنا آلاف المرات، ولا يُعزز فينا قيمة التفاعل الإيجابي، إشعال شمعة في حياتهم؛ بل هي شمعة بحياتنا.
إدمان جلد الذات، وتحقير النفس، وتحطيم الأماني، وشتم الدنيا، والتغول على الطموح، هذه مميزات بعض الخطاب الديني الذي مضى عليه عقود طويلة، وبات اليوم يمثل عبئاً يُثقل كاهلنا، ويربطنا ثم يشدنا إلى القعر، حيث الظلام الدامس، ثم بعد أن يتسرب الظلام إلى نفوسنا وتتسربل به؛ نصير مسكونين بهاجس النور في الآخرة، ونسينا أو تناسينا أن ثمة جنة في الدنيا من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
لقد آن الأوان أن نخلع عن أنفسنا السلبية، ونلقي عن ظهورنا كل من يمارسها علينا، ولنعش مع آيات ربنا القرآنية والكونية في جو من الإيجابية الدائمة، إيجابية ننطلق بها إلى الفضاء، بعد أن نعمر الأرض، وحتى يحصل هذا كله فلا بد من أن نشعل جذوة التفاؤل في قلوبنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.