لم يقتصر الاهتمام النبوي ببيت المقدس على السنة القولية، بل تعداه إلى السنة الفعلية، فكانت الخطة المنهجية للنبي -صلى الله عليه وسلم- تقوم على ربط الأمة ببيت المقدس برباط عملي، من خلال تقديم التضحيات، لتحرير بقعة مهمة من أرض الإسلام.
فنراه يحرص على إرسال الجيوش الإسلامية إلى تخوم الشام باستمرار، بحيث تكون مقدمة للفتح الفعلي لبيت المقدس، بعد أن كان الفتح الروحي في رحلة الإسراء والمعراج.
ويقول عبد الله معروف، في كتابه بيت المقدس في استراتيجية النبي صلى الله عليه وسلم: إن التحرك العسكري للنبي -صلى الله عليه وسلم- باتجاه بيت المقدس أخذ شكلين اثنين: عمليات عسكرية صغرى، وعمليات عسكرية كبرى، وقد كان الهدف من الأولى استطلاع الطرق وتدريب قادة الجيوش الإسلامية. ويدخل في هذا الشكل جميع السرايا التي شارك فيها عدد محدود من الصحابة، أما العمليات الكبرى فقد هدفت للتخلص من العقبات الكبرى أمام الجيوش الإسلامية باتجاه بيت المقدس، والتحضير الفعلي للفتح.
ويضيف الكاتب أنه لم يكن في العام الخامس للهجرة أي سرية أو غزوة باتجاه الشمال الغربي، أي باتجاه بيت المقدس، أما العام السادس فشهد 13 سرية وغزوتين، واحدة منهما كانت أكبر غزوة في حياته، وهي أبعد ما وصل إليه صلى الله عليه وسلم، وهو يرى أن سرية حسمى هي أول سرية باتجاه الطريق الواصل إلى بيت المقدس، بينما أرى أن أول تحرك عسكري باتجاه بيت المقدس لم يكن من خلال سرية، بل كان أكبر من ذلك.
لقد بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- تنفيذ الخطة العملية عام 5 هجري، حيث توجه ومعه ألف مقاتل إلى دومة الجندل في شهر ربيع الأول، بعد أن بلغه أن جمعاً من الروم تجمعوا بها، كما جاء عند الطبري.
ويوضح تلك الغاية النص الذي ورد في البداية والنهاية: "أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدنو إلى أداني الشام…".
وعندما نتأمل هذا النص "أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدنو إلى أداني الشام"، ندرك مدى ذلك الاهتمام النبوي بأرض الشام، فقد كان بإمكان النبي أن يتحصن في المدينة المنورة، وينتظر قدوم ذلك الجيش، الذي سيصل -إن فعل- منهكاً، بعيداً عن مصادر الدعم اللوجيستي، أما الجيش الإسلامي، فيعرف طبيعة الأرض، وعنده كل الاحتياجات، لكنه لم يفعل، ولم يختَر مكاناً آخر، بل توجه إلى أقصى موقع يمكن أن يصله الجيش الإسلامي، ليؤكد للأمة أن للمسلمين بتلك البقاع أرضاً خاضعة للاحتلال لا بد أن تستعاد بأي ثمن.
إن طبيعة هذه الغزوة والاهتمام بها نابعان من الاهتمام بالغاية المرجوة منها، وهي التمهيد لفتح بيت المقدس، وهذا يتضح من خلال ما يلي:
1_ مشاركة النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه في هذه الغزوة، إذ لم يؤمر عليها أحداً من الصحابة، ولا حتى من أبرع وأمهر قادته.
2_ العدد الكبير نسبياً الذي شارك في هذه الغزوة، صحيح أنه ليس كبيراً جداً مقارنة بمعارك أخرى، لكنه يعد أكبر من غيره في ذلك العام.
3_ وصول الجيش إلى أقرب منطقة من بيت المقدس، ولذلك دلالة عظيمة فهمها البيزنطيون، وهي أن الجيش الفتي الذي وصل إلى هذه البقعة القريبة من أماكن السيطرة والنفوذ البيزنطي، لن يقبل في المستقبل بأقل من هذا الإنجاز، وهذا سيفتح شهيته للتقدم أكثر، والوصول إلى بيت المقدس، فالبيزنطيون يعلمون جيداً مكانة بيت المقدس عند المسلمين، فلن يخفى عليهم خبر رحلة الإسراء والمعراج.
إن بداية تنفيذ استراتيجية فتح بيت المقدس بهذا المستوى لا تدل فقط على مدى الاهتمام والإصرار النبوي على استرداد بيت المقدس، وإعادتها إلى حكم الإسلام، بل تدل على الحنكة النبوية، والتعظيم لشأن بيت المقدس.
نعلم أنه من البديهي أن تبدأ أي استراتيجية عظيمة بوتيرة متصاعدة شيئاً فشيئاً، لكن أن تبدأ بغزوة بهذا المستوى، من حيث طبيعة المشاركة، وقوام الجيش، وموقعها، فليس لذلك إلا تحليل واحد عندي، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ مرحلة فتح بيت المقدس بنفسه، وأنه كان يتوق لذلك الفتح، كما يتوق تماماً لفتح مكة.
أما وإن علم بعد ذلك أن الفتح لن يتم في حياته، فقد أعطى هذه القضية بُعداً دينياً وإدارياً وتربوياً عظيماً في نفوس الصحابة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.