رجل كان سيصاب بالعمى، وطفلان مصابان بضمور العضلات الشوكي قادهم القدر إلى أطباء يبحثون عن الحل في أصل تكوين الإنسان؛ الجينات. أطباء قرروا أن يأخذوا عاتق تطور الوراثة بأيديهم، بحثوا عن السبب وها هم يبحثون عن الحل في علاج الجينات. فهل تنتهي قصة المرضى الثلاثة نهاية سعيدة؟
نستعرض في هذا التقرير رحلة ماثيو وكاميرون وآيدن مع الثورة التي ستُغير تعريف البشر للأمراض.
في مكتبه في مستشفى جون رادكليف، التابع لجامعة أكسفورد، يجلس الأستاذ الجامعي روبرت ماكلارين مستقيماً، منتصب الظهر كما لو كان جندياً.
يتذكر أسوأ لحظات حياته المهنية التي بدأت منذ 20 عاماً، عندما رُفض طلبه تمويل مشروع يبحث طريقة استخدام العلاج بالجينات لعلاج الحالات التي تُسبب العمى.
يقول: "هاجم المراجعون بشدة، وقالوا لنا: (محالٌ أن يتحقق ذلك، إنَّ تمويل مثل هذا المشروع الغبي والسخيف ليس إلا مضيعة للوقت)".
لكن في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، أتم ماكلارين بنجاح أول تجربة علاج بالجينات في العالم Gene Therapy لواحدة من تلك الحالات المعروفة باسم تنكس المشيمية، كجزء من أكبر تجربة على الإطلاق تُجرى في مرحلة متقدمة على أي مرضٍ وراثي.
تمثل عمليته كشفاً مميزاً في سعي العلماء والأطباء لفهم لماذا وكيف يمكن لجيناتنا أن تتسبب في إصابتنا بالمرض، وعلى ما يبدو الإمكانية المدهشة لإعادة كتابة شفراتنا الوراثية.
لكنَّ انتصار ماكلارين لم ينل ما يستحقه من التقدير: "إنَّه أمرٌ مرضٍ حقاً، عندما تُقَابَل بمثل هذا الرفض، ثم تثبت أنَّ المراجعين كانوا على خطأ. أود أن أعود إليهم وأقول: انظروا إلى ما يجري الآن".
الحالة الأولى: رجل أعمى يستعيد بصره بفضل علاج الجينات
قد يرغب ماكلارين بتقديمهم إلى ماثيو بيشوب، وهو أحد المرضى الذين خضعوا لتلك التجربة.
بيشوب بستاني وخبير في نبات زهرة اللبن، وهو رجل ذكي، هادئ الحديث، ويعيش في "ديفون الأسوأ طقساً، حيث يهطل 1778 ملليمتراً من الأمطار كل سنة".
كان بيشوب، البالغ من العمر الآن 49 عاماً، يعمل رئيساً للبستانيين عندما بدأ عالمه في الانهيار بغتة.
كان يقود سيارته ببطء عندما اتجه إلى مسار سيارة أخرى. ويقول: "لم أر السيارة الأخرى وهي تأتي من اليسار لأن مجال رؤيتي أصبح محدوداً، ولكن لحسن الحظ كنا نسير بالسرعة المناسبة، لذا فإنَّ مصدّ سيارتي الخلفيّ ارتطم بمقدمة السيارة الأخرى فحسب".
New Outlook now live: Gene therapy. After a roller-coaster ride of hype and disappointment, the decades-long effort to cure diseases by repairing or replacing faulty genes is starting to yield useful treatments. #genetherapy https://t.co/DOagCqFswB pic.twitter.com/rNqPRplvHF
— Nature Outlook (@NatureOutlook) December 12, 2018
اكتشف بالصدفة أنه سيفقد بصره بسبب اضطراب وراثي
كشفت زيارة إلى طبيب العيون أن مجال رؤية بيشوب الجانبية ضعيف جداً، وشُخصت حالته بالتهاب الشبكية الصباغي، وهو عبارة عن مجموعة من الاضطرابات الوراثية التنكسية التي تؤثر على الشبكية في مؤخرة العين.
عندما سأل الطبيب كان رده: "حسناً، سوف تصاب بالعمى". وقف ماثيو يومها خارج عيادة طبيب العيون وهو ينتحب منهاراً.
ترك وظيفته، وبدأ في إعادة تصميم منزله، استعداداً لوقت سيحتاج فيه رعاية خاصة.
يقول: "كنت أشعر بهذا الفراغ الهائل، الجزء المخيف المجهول. ماذا سأفعل؟ كيف سيؤثر هذا على علاقتي مع عائلتي وأصدقائي؟ كيف سأتقبل أنَّني سأصبح متكلاً على أحدهم؟".
بعد حوالي عامين أُحيل بيشوب إلى ماكلارين، الذي أكد تشخيص طبيب العيون وحدد الحالة الخاصة التي تؤثر على بيشوب بأنها تنكس المشيمية، الناجمة عن طفرة في جين يسمى CHM.
جمعه القدر بطبيب يبحث عن علاج لهذه الحالات
أهلته إصابته بهذه الحالة بعينها التي يُقدر أنها تصيب فرداً واحداً من بين كل 50 ألف شخص، للمشاركة في تجربة ماكلارين الإكلينيكية الرائدة، التي كانت بمثابة أمل.
يقول بيشوب: "فجأة ظهر احتمال عدم إصابتي بالعمى، إنه لَتغيير كبير في مسار حياتي".
ويُرجع روبرت ماكلارين أصل انبهاره بعلم الإبصار إلى خبراته المبكرة، ونشأته في بلدة أنغميرنغ على البحر، وهي بلدة ساحلية صغيرة تقع في غرب ساسكس، حيث كان والده مصوراً ووالدته ممرضة مساعدة في دار لرعاية للمكفوفين.
وبعد حصوله على درجة الدكتوراه خدم في الجيش البريطاني، قبل أن يبدأ تدريبه في طب العيون.
وهو الآن يجمع بين العمل الإكلينيكي في هيئة الخدمات الصحية الوطنية والعمل الأكاديمي، والبحث في أسباب العمى كأستاذ في طب العيون في جامعة أكسفورد.
ويوضح ماكلارين قائلاً إن ما يجعل العلاج الجيني ثورياً هو أنه يغير طريقة تفكيرنا في الطب: "فكرة أن تعالج مرضاً ليس بالبروتينات أو الأدوية، الأشياء التي لها تأثير عام على الخلايا، ولكن بتعديل جينات الخلية نفسها".
Results from this suggest that glial cell-line derived neurotrophic factor (GDNF) can reverse motor deficits and nigrostriatal pathology despite an ongoing nigrostriatal degeneration #openaccess
Read the full article here: https://t.co/34mHJ53Esw pic.twitter.com/qpRTqgIZG5— Gene Therapy (@GeneTherapy_SN) December 7, 2018
الجينات الضعيفة أو المفقودة سبب الكثير من الأمراض
عندما يكون لدى المريض طفرة جينية، بمعنى أن جزءاً من الحمض النووي مفقود أو لا يعمل، كما هو الحال مع بيشوب وجين CHM في خلاياه، يتيح العلاج بالجينات فرصة تصحيح ذلك من خلال إضافة مادة فعالة تشبه الحمض النووي لتحل محل الجزء المفقود.
العلاج بالجينات هو الطفرة الطبية التي نحتاجها ونحن نندفع إلى عصر يتطور بسرعة فائقة، ويقول ماكلارين: "لقد تطوَّر الجنس البشري على مدار الـ200 ألف سنة الأخيرة، من خلال نظرية الانتقاء الطبيعي التي وضعها داروين، إذ صمدت جيناتنا القوية، وفنيت الجينات الضعيفة، وهذه التغيرات الجينية، أو ما نسميه الانجراف الوراثي، لا تزال مستمرة".
ويواصل قائلاً إن هذه التغيرات تعد ميزة في بعض الأحيان، إذ تفنى الجينات الضعيفة، التي عادةً ما تكون ضارة، وتتسبب في الإصابة بالأمراض المدمرة.
ويوضح قائلاً: "لديّ 3 أطفال. في كل واحد من هؤلاء الأطفال سيكون هناك ما لا يقل عن 50 إلى 70 طفرة جديدة لا نحملها أنا وزوجتي، لأنَّ الحمض النووي يتطور بهذه الطريقة. وإذا كانت هذه الطفرات تحدث في جين محدد ومهم، فسيكون هناك مرض وراثي، وهلم جرا بالنسبة للجيل القادم".
وهذا له آثار ضخمة عندما يتعلق الأمر بانتشار أمراض وراثية جديدة، وطريقة تفكيرنا حول العلاج الوقائي.
ويقول: "سيكون لزاماً على الأجيال من الآن محاولة علاج الأمراض البشرية قبل حدوثها. ويعد العلاج بالجينات أداة قوية جداً لتحقيق ذلك".
وبدل أن ننتظر تطور الجينات يبحث العلماء عن تطويرها بأنفسهم
رؤية ماكلارين للمستقبل تفوق تصور العقل البشري. ويقول: "سوف نتولى توجيه التطور الدارويني بأنفسنا. سنكون قادرين على تصحيح الجينات المعيبة في الناس، ليس عن طريق تركهم ليموتوا ولكن باستخدام الطب".
ويوضح قائلاً إن غالبية الأمراض التي نعاني منها في العالم المتقدم تكون عائدة للجينات، بل ويمكننا القول إننا قد نصبح قادرين على القضاء على معظم هذه الأمراض.
قد يبدو هذا ضرباً من الخيال العلمي، كم سيستغرق من الوقت حتى يصبح حقيقة؟
ويقول بشأن ذلك: "في غضون 100 عام. إننا نتقدم بمعدل مرتفع للغاية، من اكتشاف واتسون وكريك للحمض النووي في الخمسينيات من القرن الماضي إلى أول علاج معتمد في عام 2017".
فقرَّروا استخدام الفيروسات كخدمة توصيل طلبات الجينات المطلوبة
كان أحد أصعب الأسئلة التي واجهها العلماء هو كيفية نقل المادة الجينية البديلة إلى الخلايا التي تحتاجها. وقد وجدوا حلاً بارعاً: عن طريق فيروس.
يقول ماكلارين: "إنَّ الفيروس هو نظام بيولوجي تطور على مدى مليارات السنين ليصبح فعالاً للغاية في الوصول إلى الخلايا وإيصال الحمض النووي إليها. إذا حاولنا صناعة كائن مشابه في المختبر لإدخال الحمض النووي، فقد يستغرق الأمر سنوات، عمراً كاملاً. لكن إذا استطعنا استخدام كائن حي يفعل ذلك بالفعل، حسناً، الأمر عبارة عن تسخير قدرات هذا الفيروس فحسب".
بهذا المعنى، سيبدو عمل الفيروسات في توصيل العلاج الجيني أشبه بموصلي طلبات الطعام لشركة Deliveroo.
ولكن لا بد أن يكون نوعاً خاصاً من الفيروسات. أي فيروس لن يسبب أي التهاب أو أية آثار جانبية أخرى.
وهذا النوع الذي يستخدمه ماكلارين يدعى الفيروسات المرتبطة بالفيروسات الغدية، أو AAV، ويبلغ حجمه 20 نانومتر فقط.
ويصفه ماكلارين بأنه "فيروس حذر صغير تطوَّر ليصبح صامتاً بالكامل ولا يفعل أي شيء".
Implantable porous scaffolds that act as local gene delivery depot, enhance mRNA vaccine immunization in vitro and in vivo. https://t.co/91fqG5Nbl4 pic.twitter.com/ou4asIBim0
— Gene Therapy (@GeneTherapy_SN) December 7, 2018
يفرغون حمض الفيروس النووي ويستبدلونه بالجينات المطلوبة
يجرّد العلماء الفيروس من حمضه النووي، ليضعوا مكانه الجين العلاجي المفقود من الحمض النووي للمريض، وفي حالة بيشوب هذا هو جين CHM المفقود.
ثم تُحقن به الخلايا الواقعة خلف الشبكية، حيث يعمل مثل فيروس حصان طروادة، ويطلق الجين المخبأ داخله.
وتتعامل الخلايا مع هذه المادة الشبيهة بالحمض النووي كالمادة الخاصة بها، ويقول ماكلارين: "على حد علمنا، يعبر هذا الحمض النووي إلى حد كبير عن عمر الخلية".
لتوصيل الفيروس المتحول لفيروس حصان طروادة إلى خلايا شبكية عين بيشوب، اضطر ماكلارين إلى فصل الشبكية عن الجزء الخلفي من عينه.
وقد عرض فيلماً مُكّبراً للعين أثناء هذه العملية: ظهر فيه طرف المحقن، وقطرة من السائل لتستقر في فقاعة لا تُرى بالعين المجردة تحت الشبكية، يبتعد المحقن، وبهذا تتبدل الشبكية.
أُجريت هذه العملية على 14 عيناً فقط حتى الآن
يتذكر بيشوب شعوره جيداً ويصفه قائلاً: "أتذكر أنني استيقظت بعد العملية، وشعرت أن شخصاً ما قد أدخل جميع رموشي في مقلة عيني. إذ كانت ممتلئة بالدموع وحمراء للغاية".
أجريت العملية لعين واحدة فقط لكل شخص من الـ14 مريضاً المشاركين في التجربة: كان أحد الأسباب وراء اختيار ماكلارين للتركيز على حالة تنكس المشيمية هو أنه مرض متناظر، بمعنى أنه يمكنه قياس فاعلية العلاج بمقارنة العين المعالجة بالعين التي لم تُعالج.
وقد تدهورت حالة العين غير المعالجة في ثلاثة أرباع المرضى، ولكن بالنسبة لكل شخص من أولئك الذين تلقوا العلاج بنجاح، فقد احتفظ البعض بقدرتهم على الإبصار، وتحسنت رؤية البعض الآخر لمدة تصل إلى 5 سنوات بعد العملية.
وفي ديسمبر/كانون الأول عام 2017، وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية FDA على شكل من العلاج لنوع مختلف من العمى الوراثي.
يقول ماكلارين: "لقد تحول الأمر من محض نظريات إلى علاج حقيقي معتمد رسمياً".
يصف بيشوب نفسه الآن بأنه مبصر جزئياً، فرؤيته الجانبية منعدمة، ولن يسترد أبداً ما فقده.
ويقول إنه إذا مدّ أحدهم يده لمصافحته فيما تتركز عينه على عينَي ذلك الشخص، فإنه لا يرى اليد الممدودة على الإطلاق، ويعبر عن ذلك قائلاً: "يظنون أنني وغد وقح لأنني لا أصافحهم، إنه أمرٌ غريب بعض الشيء، لكنه كان ليكون أسوأ بكثير. إذ إن مجرد معرفة أنهم يمكنهم منع أي تدهور ساعدني على التخلص من شبح الإصابة بالعمى في المستقبل. إنه أمرٌ مذهل".
ويضيف: "أشعر أنني محظوظ للغاية، لأن الطفرة الجينية التي أصابتني يمكنهم معالجتها".
المرض الصحيح في الوقت الصحيح.. رجاء البعض في هذه الرحلة
هناك ما يثير الحزن في اعتبار نفسك محظوظاً لإصابتك بـ "المرض الوراثي الصحيح".
يستخدم ماكلارين نفس الكلمة لوصف توقيت برنامجه البحثي، إذ إن الكثير من الاكتشافات السابقة كانت ضرورية لجعل علاجه ممكناً: مثل تطوير قاعدة بيانات مشروع الجينوم البشري National Human Genome.
على مدى العقد الماضي (الذي يهدف إلى وضع تسلسل كل جين بشري على حدة ورسم خريطة له)، وتطور علم الفيروسات (دراسة الفيروسات)، بالإضافة إلى التقدم في جراحة الشبكية على مدى السنوات الثلاثين الماضية.
الحالة الثانية: كاميرون.. طفل مصاب بضمور العضلات الشوكي
"الحظ السعيد" هي الكلمة التي تظهر أيضاً في سياق حديث روب وأليسون هاردينغ.
رجل وزوجته يعيشان في ولاية كارولينا الجنوبية في أمريكا، مع ابنهما كاميرون ذي الخمسة أعوام وابنتهما إيمرسون ذات الثلاثة أعوام، وريان، ابن روب من علاقة سابقة، البالغ من العمر17 عاماً.
يقول كاميرون عبر سكايب لصحيفة The Guardian إن هوايته المفضلة هي اللعب في الحديقة المائية مع شقيقته، وكتابه المفضل يتحدث عن الفضاء.
من الصعب أن نحدد بالضبط ما يقوله كاميرون، لأنه يعاني من ضمور العضلات الشوكي (SMA)، وهو اضطراب وراثي يسبب الهزال التدريجي للعضلات، وليس له علاج، أو على الأقل، لم يكن له علاج حتى وقت قريب.
هناك أنواع من مرض ضمور العضلات الشوكي، حسب درجة شدته، ويعاني كاميرون من النوع الأقوى من المرض؛ النوع الأول.
ولا يُتوقع أن يظل الأطفال الذين يولدون بالنوع الأول من ضمور العضلات الشوكي على قيد الحياة بعد سن الثانية، من دون تزويدهم بجهاز تنفس.
صحة كاميرون ضعيفة للغاية، وهو يستخدم كرسياً متحركاً يدوياً ولديه جهاز لمساعدته على التنفس أثناء الليل، بالإضافة إلى جهاز آخر لمساعدته على السعال، وثالث لمساعدته في إزالة الإفرازات، لأنه يعاني من صعوبة بالغة في البلع، ويتناول الطعام من خلال أنبوب في معدته.
لكن روحه المعنوية، كما يقول روب، قوية: "إنني أحب أسلوبه في الحياة. فهو لا يكتفي بالجلوس واستجداء شخص ما لمساعدته. ولكنّه يجد سبيلاً، ويكتشف طريقة للحصول على ما يريد. إذا أراد أن يلعب بالسكوتر وهو جالس، أو يتدحرج على الأرضية، أو يمسك شيئاً ما بأصابع قدميه، فهو يحاول بإصرار أن يفعل ما يريده. وهذا ما أحبه فيه، لأن هذا هو الجزء الذي لا يمكنك تلقينه إياه".
ظهر المرض في أيامه الأولى بعد الولادة
عندما كان عمر كاميرون حوالي أربعة أسابيع، انتاب أليسون شعورٌ بالقلق إزاء عدم تحريكه لذراعيه.
اتصلت بالطبيب وطلب منها إحضار كاميرون على الفور. وقد أُرسلوا مباشرة إلى المستشفى، حيث أخبروهم بعد يومين: "نعتقد أنه يعاني من ضمور العضلات الشوكي. ولا توجد علاجات لهذه الحالة، والتجارب السريرية الحالية لا تؤدي إلى نتيجة فعالة، عودي إلى المنزل، وأحبي طفلك كما هو".
يقول روب: "لقد كان أسوأ شيء يمكن أن تسمعه. ها هو هذا الطفل الجميل، نحمله، إنه حي، بين ذراعينا، ويخبروننا أنه سيموت، ولا يوجد ما يمكنهم فعله على الإطلاق".
بدأ والده في البحث عن حل.. أي حل
ولأن الحزن قد فطر قلوبهم فقد اكتفى ثلاثتهم بفعل ما قيل لهم في البداية.
لكن روب لم يستطع أن يجلس ساكناً، ويقول: "كنا نجلس في المنزل، ونبكيه، وكان عليّ أن أفعل شيئاً. كان ذلك في منتصف الليل، ونهضت وبدأت في البحث، وعثرت بالصدفة على تجربة سريرية بقيادة الدكتور فينكل".
ريتشارد فينكل هو طبيب مخ وأعصاب أطفال، وهو لطيف المعشر ويعمل في مستشفى Nemours للأطفال في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا الأمريكية.
أمضى السنوات الأربعين الأخيرة في علاج الأطفال الذين يعانون من أمراض تؤثر على أعصابهم وعضلاتهم، وعلى مدار ذلك الوقت، شهد كشفاً في علاج الأطفال الذين يعانون من ضمور العضلات الشوكي.
يقول عبر سكايب: "إن ضمور العضلات الشوكي هو أحد أكثر الأمراض الوراثية المميتة شيوعاً في الطفولة بمراحلها المختلفة، وهي حالة لم يسمع بها معظم الناس قط".
وهي تصيب واحداً من كل 11 ألف طفل يولد: يقول فينكل: "عادةً ما يولد هؤلاء الأطفال وهم طبيعيون وفي صحة جيدة، ويذهبون إلى بيوتهم، ولا يكون لدى الوالدين وطبيب الأطفال أدنى فكرة أنهم مصابون بهذا المرض المميت المسمى بضمور العضلات الشوكي".
ويتسبب عيب وراثي في جين SMN1 في تدهور بعض العصبونات الحركية قبل الأوان؛ وتلك العصبونات عبارة عن خلايا تعيش في الحبل الشوكي وجذع الدماغ توجّه بتقلص واسترخاء العضلات.
وعندما تتوقف العضلات عن استقبال تلك الإشارات العصبية، يحدث الضمور، ويصبح الطفل أضعف تدريجياً.
يقول فينكل: "إنه مرض قاسٍ للغاية يصعب مراقبته، لأن هؤلاء الأطفال ينتقلون من حالة الضعف إلى الشلل التام على مدى شهور أو سنوات".
ثلث المصابين بهذا المرض يموتون قبل عامهم الثاني
وحتى وقت قريب، لم تكن هناك أخبار سارة على الإطلاق للأطفال الذين يعانون من ضمور العضلات الشوكي ولأسرهم.
وفي أوائل الثمانينيات، كان أقل من 30% من الأطفال المصابين بضمور العضلات الشوكي من النوع الأول مثل كاميرون سيظلون على قيد الحياة إلى عيد ميلادهم الثاني.
وفي السنوات العشرين الماضية، كان التقدم في خدمات الرعاية الداعمة يعني أن 80%من هؤلاء الرضع يمكن أن يستمروا على قيد الحياة حتى عمر السنتين وما فوق، لكن حالتهم استمرت في التدهور.
لم تكن هناك إنجازات جديدة في هذا المجال.
Spinraza ..اسم الدواء الذي يستبدل الجينات المصابة
جاء أول تلك الإنجازات في عام 1995، عندما وجدت عالمة الوراثة الفرنسية جوديث ميلكي وزملاؤها السبب الوراثي لضمور العضلات الشوكي، واكتشفت جين SMN1، وما يسميه فينكل "النسخة الاحتياطية"، جين SMN2، وكلاهما ينتج البروتين الذي يوجد بكميات ضئيلة في الرضع الذين يعانون من ضمور العضلات الشوكي.
ومع أن ضمور العضلات الشوكي لا يوجد بشكل طبيعي في أي نوع آخر إلى جانب البشر، يمكن للباحثين الآن إصابة الحيوانات بالمرض اصطناعياً، ودرسوا كيف تطور المرض في الفئران والخنازير وذباب الفاكهة وأسماك الحمار الوحشي.
ويقول فينكل: "لا يوجد في أي من هذه الحالات ما يشبه الحالة البشرية بالكامل، لكن كل حالة منها تقدم لنا معلومات حول ما يفعله هذا المرض في الجسم، خاصةً لتلك العصبونات الحركية".
وكان هذا يعني أنه يمكنهم البدء في تطوير العلاجات.
وكان أول دواء يعملون على تطويره، ويعرف باسم Spinraza، هو ما يسميه فينكل "علاج تعديل الجينات"، إذ بدلاً من التخلص من جين SM1 المعيب، فإنه يتخلص من جين SMN2 "الاحتياطي"، الذي ينتج حوالي 10% فقط من ذلك البروتين الحيوي بشكل طبيعي، ويرفق القليل من مادة تشبه الحمض النووي لإعطائه دفعة وتعويض النقص.
قرر الوالدان تجربة الدواء الجديد على ابنهما
وعندما أُعطي للفئران المصابة بضمور العضلات الشوكي اصطناعياً، وجد الباحثون أنها ازدادت قوة، وبعد أن كانت تموت بعد 15 يوماً، استمرت في البقاء على قيد الحياة لأكثر من مائة يوم.
ولكن هل سيكون له نفس التأثير على البشر؟
سيتطلب الأمر إجراء تجربة سريرية لمعرفة ذلك- وهي تجربة سيتعرض الأطفال فيها للحقن مرات متكررة في سائلهم النخاعي عن طريق البزل القطني.
في الوقت الذي تلقى فيه كاميرون أول حقنة من هذا الدواء من فينكل، بعد أسبوعين من تشخيص حالته، كان قد أصيب بالشلل التام.
كان العلاج مخاطرة كبيرة من عائلة هاردينغز؛ إذ لم يرغبوا في إطالة أمد معاناة ابنهم إذا لم يكن هناك أمل في حدوث تحسن ملموس؛ ولأنه لم يكن هناك سوى عدد قليل من الآباء الآخرين الذين أمكنهم التحدث إليهم لأن الدواء كان جديداً بالكامل.
وفي نهاية المطاف، يقول روب: "لقد جاءت هذه التجربة أيضاً للمساعدة في إعطاء معنى لحياته إذا مات، لأنه سيساعد الأطفال والآباء القادمين الذين كتب عليهم خوض هذا الأمر".
كان اتخاذ هذا القرار بمثابة إنجاز في حد ذاته لكاميرون ووالديه.
ثم أظهر الطفل تحسناً أشبه بالمعجزة
تقول أليسون: "لم نعد نبكيه، ولم نعد نخطط لجنازته، كان تركيزنا على التجربة، ورأينا النتائج، وساهمنا في البحث".
بل وحتى فينكل كان مندهشاً مما حدث بعد ذلك: "إنه شيء رائع إلى حد ما. كان التحسن في الفأر قد تنبأ بالفعل بالطريقة التي استجاب بها هؤلاء الأطفال للعلاج. على خلاف العادة".
يموت بعض الأطفال بسبب المرض. ومع ذلك، فقد تحسن معدل البقاء على قيد الحياة بشكل عام، وتعلم الكثير من هؤلاء الأطفال أن يتدحرجوا، ويبقون رؤوسهم ثابتة، بل وفي بعض الحالات أن يجلسوا.
إن كاميرون ليس أقوى مرضى فينكل، لكنه ليس الأضعف أيضاً. وبالنسبة لوالديه، فإن تحسن حالته كان بمثابة المعجزة.
لكن كلفة حقن العام الأول 750 ألف دولار
يقول فينكل إن استجابة الرضع الذين يخضعون للعلاج قبل ظهور الأعراض، الذين تُعرف إصابتهم بضمور العضلات الشوكي من خلال الاختبارات الجينية، أسرع وأقوى لهذا الدواء.
ويبدو أن العديد من هؤلاء الأطفال يستمرون في النمو بشكل طبيعي، ويمشون ويتحدثون كما يفعل الأطفال الآخرون، ولا يحتاجون أبداً إلى جهاز لدعم التنفس.
وفي ديسمبر/كانون الأول من عام 2016، اعتمدت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية دواء Spinraza، وتبعتها وكالة الأدوية الأوروبية، وقد أصبح معتمداً الآن في المملكة المتحدة للأطفال الذين يعانون من أخطر أشكال مرض ضمور العضلات الشوكي.
ولكن في شهر أغسطس/آب، قرر المعهد الوطني للتفوق في مجال الصحة والرعاية عدم التوصية باستخدامه في هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية، ويعود ذلك لبعض الأسباب منها التكلفة، إذ بلغت تكاليف الحقن للعام الأول وحده 750 ألف دولار.
ولا يوجد علاج لضمور العضلات الشوكي في المملكة المتحدة.
الحالة الثالثة: طفل كيني مصاب بالضمور أيضاً
وهذا هو السبب الذي يدفع عالية أنجاروالا، لِأن تطلب من كل زوارها غسل أيديهم.
تقول: في كل مرة يمر فيها أحد عبر هذا الباب، بما في ذلك زوجها خليل وابنهما داني البالغ من العمر عامين، يجب أن يغسل يديه. إذ إن آيدن، البالغ من العمر أربعة أعوام، وهو طفل مرح وذكي واجتماعي، مصاب بالنوع الثاني من مرض ضمور العضلات الشوكي، وهو الشكل الأقل خطورة من المرض ولكنه يستمر مدى الحياة، ولهذا فهو معرض باستمرار لخطر الإصابة بعدوى فيروسية أو بكتيرية.
وتقول عالية إن بقاءه في حالة جيدة الآن أمر حيوي، لأنها وعائلتها على وشك تحقيق إنجاز خاص بهم.
لقد انتظروا طويلاً بما يكفي. عندما كانوا يعيشون في كينيا، قبل نهاية فحص آيدن الصحي الذي استمر لمدة عام، ذكرت عالية أن ابنها لا يبدو قادراً على الوقوف كما كان في السابق.
وكلما حاول حمل نفسه على النهوض وهو متشبث بطاولة القهوة، كانت ساقاه تنثنيان.
وبعد أن جاءت اختبارات الكساح بنتائج سلبية أخبرها الطبيب: "لا أعرف ما هي حالته، ولكنك بحاجة إلى إجراء المزيد من الفحوص. إذا كان بإمكانك الوصول إلى المملكة المتحدة يجب أن تذهبي الآن". كانت تشعر بخوف هائل.
في اليوم التالي، أقامت عائلة أنجارولا حفلة عيد ميلاد آيدن الأولى، واستقبلوا 50 ضيفاً في منزلهم: "كنا في حالة صدمة تامة. وتظاهرنا بالسعادة في الحفل، لكننا غادرنا في اليوم التالي، وسافرنا جواً إلى لندن للإقامة مع والديّ. وفي ذلك الأسبوع، شُخصت حالة آيدن بمرض ضمور العضلات الشوكي من النوع الثاني، في 26 مارس/آذار من عام 2015".
ومثلما حدث مع عائلة هاردينغز، أخبروهم أنه لا يوجد علاج.
كانت حالة آيدن تتراجع إلى أن وصل والديه إلى الطبيب فينكل
وعلى مدى الأشهر الستة التالية، لم يعد آيدن يستطيع الزحف على الأرض بذراعيه. ولم يعد قادراً على التدحرج. ولم يعد قادراً على رفع ذراعيه.
وبينما كانت عالية غارقة في حالة من الحزن، كان زوجها مستغرقاً في البحث على جوجل.
وتوصل إلى تجربة Spinraza السريرية في الولايات المتحدة، وقال الزوجان لطبيب آيدن إنهما سينتقلان إلى أي مكان إذا كان ذلك يعني أن ابنهما يمكن أن يحصل على العلاج. وقيل لهم إنهم لا يستطيعون المشاركة في التجارب في بلد آخر.
واكتشفوا في وقت لاحق أن آخرين قد فعلوا ذلك، ولم يغفروا لأنفسهم عدم بذلهم مجهوداً أكبر.
تقول عالية: "منذ ذلك الحين، كنا مستغرقين في البحث عن التجارب السريرية، ونحاول أن نشق طريقنا إليها".
فشلوا مرة تلو الأخرى، حتى أغسطس/آب عام 2017، عندما تمكنوا من مقابلة فينكل.
شرح لهم تفاصيل العملية.. ناقل فيروسي يحقن في القناة الشوكية
تتحدث عالية عنه، كما فعل هاردينغز، بصوت يمتلئ امتناناً: "لقد كان لطيفاً جداً منه أن يقابلنا. أمضى الكثير من الوقت في التحدث مباشرة إلى آيدن، موضحاً ما كان يفعله فيما كان ينظر إلى مفاصله، ما جعله يشعر بالراحة".
وأخبرهم عن تجربة سريرية جديدة للعلاج بالجينات كان يقودها للأطفال الذين يعانون من ضمور العضلات الشوكي من النوع الثاني، مثل آيدن.
يعمل هذا النوع من العلاج بالجينات، الذي تنتجه شركة الأدوية AveXis، مثل علاج ماكلارين، مستخدماً نفس الناقل الفيروسي لتقديم الحمض النووي البديل إلى جين SMN1 المعيب، عن طريق الحقن في القناة الشوكية.
أمضت عائلة أنجاروالا السنة التالية في إرسال رسائل البريد الإلكتروني، وملاحقة وترتيب الاجتماعات والفحوصات لآيدن، وفي اليوم الذي التقينا فيه، تقول لي عالية: "لقد حققنا نجاحاً بنسبة 95%".
وبعد أسبوع أو نحو ذلك، سوف يسافرون إلى مدينة أورلاندو لإجراء فحص دم أخير، للتأكد من أن آيدن لم يصب بأي جرثومة.
إذا ما شارك في التجربة، فسوف يبقون هناك لمدة عام على الأقل؛ وإذا لم يفعل، فسوف يعودون بعد أسبوع، إلى نقطة الصفر.
على الرغم من أنهم حزينون لترك عائلتهم وأصدقائهم في لندن، لكنهم يشعرون أنه ليس لديهم خيار.
بيشوب مستمر في العلاج لمساعدة الآخرين
منذ أن خضع جون بيشوب للعملية في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016، كان يزور أكسفورد بانتظام كي يقيس ماكلارين قدرته على الرؤية.
ظلت حالة العين المعالجة مستقرة: فهي تعمل حتى الآن. ويقول بيشوب إنه قيل له في بداية التجربة إنه يستطيع الانسحاب في أي وقت يريده: "قلت في نفسي" حسناً، لماذا قد أفعل ذلك بحق الجحيم؟ إنه بمثابة مساعدة للآخرين أيضاً، بعض المساكين الآخرين الذي أصابتهم نفس حالتي. إذا كان بإمكانك فعل أي شيء يعني أن شخصاً ما في مكان ما في حالة متأخرة لن يصاب بالعمى، فستفعله، أليس كذلك؟".
كاميرون أصبح أقوى وأكثر حركة
وفي هذه الأثناء، أصبح كاميرون أقوى، فيما تمضي أسابيع وشهور وسنوات من الحقن المنتظم.
كان الوالدان يراقبانه في فرحة عارمة وهو يحقق تقدماً في أشياء أخرى، إذ أصبح قادراً على تحريك يديه، ثم ذراعيه، ثم أصبح يتدحرج على الأرض، بل أصبح قادراً على المشي بمساعدة أحدهم.
ويقول روب: "في البداية، كنت آمل أن يتمكن يوماً ما من تحريك أحد أصابعه ليتمكن من التواصل بطريقة ثنائية. وهو الآن يتجول على كرسي متحرك يدوي، إنه يثير انبهارنا".
وتضيف أليسون: "نشعر أننا محظوظون للغاية".
أما آيدن فينتظر نتيجة علاجه.. فأي نتيجة أفضل من تدهور حالته
تقول والدة آيدن: "حاول الدكتور فينكل وغيره الحد من توقعاتنا، قائلاً إنه قد لا يكون لها تأثير كبير عليه، ونحن نعرف ذلك. لم نكن نعيش في وهم أن يكون هذا العلاج نوعاً من المعجزة".
وتضيف: "لقد وقع الكثير من الضرر بالفعل. لكن بصراحة، حتى لو كان هذا العلاج يوقف تقدم المرض، فإن هذا إنجاز كبير بالنسبة لنا".
"من دون علاج، لم أكن سأعرف ما هي الحالة التي سيكون عليها آيدن في غضون 20 عاماً. أنا لا أريده أن يفقد القدرة على الأكل، والتنفس، وتحريك يديه ورأسه. إذا حقق هذا العلاج ذلك، فإنه سيغير حياته ومستقبله، سيغير مستقبلنا جميعاً. نراهن كثيراً على هذا".