قبل أن أتطرف

الجميع يفكر بالهروب من البلد، لكي لا يطاله التجنيد الإجباري، ففتح باب الهجرة إلى أوروبا كان المخرج الوحيد، فهناك حيث الحرية الكاملة، والعيش الكريم، والبلاد الجميلة، سيوزعون الدولارات علينا حتى ولم نعمل كما قال صديقنا سليم.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/21 الساعة 02:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/21 الساعة 02:52 بتوقيت غرينتش

لم أكن أتوقع أن أخسر حلمي الوحيد بأن أصبح طبيباً ناجحاً أتقاضى آلاف الليرات على بضع كلمات مهملة، لمجرد تسرعي الهمجي باختيار الفرع الأدبي قبل الشهادة الثانوية.

فلم أكن أعلم أن الطب يحتاج لدراسة الثانوية العلمية أصلاً، ولا يملك أبي المال الكافي؛ ليدفع تكاليف دراستي خارج البلد، كابن جيراننا أسعد الذي نجح بأقل المعدلات في الثانوية الصناعية، ولا يفتأ يرسل لأبيه صوره، بصدريته البيضاء من جامعته بائعة الشهادات الشكلية؛ ليوهمهم بأنه يجري عمليات جراحية، وهو الذي لم يكن يستطيع فك معادلة من الدرجة الأولى.

حالة من الإحباط داهمتني، ووعكة نفسية حالت بيني وبين تقديم الامتحانات النهائية، ذهب الجميع للامتحان، ولم يكترث أحد بي، كم تمنيت أن تحترق المدرسة بمن فيها قبل صدور النتائج..أجلس على سطح منزلنا بغرفة صغيرة، هرباً من نظرات أبي التي ترمقني عند ذكر أي كلمة تتعلق بالدراسة.

أحاول التسلل أثناء خروجهم من المنزل، لآكل وأخرج بعض الحاجات إلى غرفتي، التي لا تصلح إلا لتربية الطيور.

قال قدور ابن خالتي شكرية إن لديه زوجاً من الحمام النادر، يبيع من فراخه في العام بعشرات الآلاف، فدفعت ثمنه كل ما بحوزتي من نقود، لكنني كرهت أن أقيد حريته، فطار مع حظي ولم يعد.. بحثت عنه كثيراً لكن لم يقر لي به أحد، من أولئك اللصوص مربي الحمام.

أجلس لا يقطع سلسلة أفكاري إلا جلبة وصياح المتظاهرين كل حين، لا أعلم، لمَ يصرخ هؤلاء الشباب بعد كل صلاة جمعة؟ وماذا يريدون بعد إسقاط النظام؟ ما معنى الحرية التي يطلبون؟

سأحاول أن أتسلل لأفهم ما يحدث، لا أحد يعلم ما يريد، فكل يغني على ليلاه، عندما عجزت عن أن أصل إلى الخلية التي تنظم المظاهرات، لجأت إلى صديقي صفوان، الذي بدأ يصنع العبوات الناسفة؛ ليدفعوا اجتياح الجيش للمنطقة، فلم أستفد من الثورة إلا تعلم تلك الحرفة الخطيرة.

لا أحد يثق بي، فانطوائي على نفسي ينفرهم مني، ويدفعهم للشك أن أكون عميلاً للجيش.. فرص العمل تقل أمام أبناء بلدي، مع تدهور الوضع الأمني واقتحام الجيش للبلدة، الجميع يفكر بالهروب من البلد، لكي لا يطاله التجنيد الإجباري، ففتح باب الهجرة إلى أوروبا كان المخرج الوحيد، فهناك حيث الحرية الكاملة، والعيش الكريم، والبلاد الجميلة، سيوزعون الدولارات علينا حتى ولم نعمل كما قال صديقنا سليم.

هناك كل شيء سهل، سأستحم كل يوم دون خجل من إخوتي، وغمز أخي الأكبر كلما رآني أتسلل إلى الحمام متستراً بالمنشفة، في تلك البلاد الجميلة سأتابع كل أفلام العنف، وكل مسلسلات العشق، دون أن يقطع التيار الكهربائي سلسلة متعتي، سأتصور سيلفي مع ميركل لأغيظ رئيس بلديتنا أبو عجاج المتغطرس.

لكن من أين سآتي بالمال لأعطيه للمهرب الجشع؟..أمي عرضت عليَّ ما بيدها من ذهب، وقرطها -حلق – الثمين الذي لم تفرط به، رغم كل الظروف الصعبة التي عصفت بالأسرة، فهو التراث الوحيد الذي ورثته من والدها رحمه الله، لم تبخل به عليَّ؛ لتنقذني من التجنيد الإجباري لأشارك بمعارك عبثية، ضد العدو الذي كان بالأمس الصديق والقريب والجار.

عند الحدود المغلقة، يضيق صدري بالانتظار، سأدفع المال قبل السفر كشرط أساسي، كلعبة القمار تضع كل ما بحوزتك على الطاولة، قبل أن تباشر اللعب..لا أعرف السباحة، وكيف سأجتاز ذلك البحر اللعين إلى شاطئ الأمان والنساء.

لا شك أن البنات الحسناوات على الشاطئ الآخر، يتشوقن لرؤية وسامتي، سأصبر من أجلهن، على ذلك التابوت المثلج، الذي يقلنا عبر البحر في ليل دامس إلى الفردوس المفقود، لأتزوج أربع جميلات، وأرسل لأمي صورهن، عسى أن تراهن شريفة، وتندم على اللحظة التي داست فيها على وردتي اليتيمة، لما رميت بها لتلتقطها أمام بيتنا، فمزقتها بقدمها وتابعت المسير.. سأخصص إحداهن لتحضر لي الشاي المخمر، الذي افتقدته خلال سفري الطويل.

عندما اقتربنا من الشاطئ، كانت المدينة مضاءة، وبغمرة الفرح وخفقان القلب، صرخ خفر السواحل الذين التفوا حولنا كأننا لصوص، وجروا القارب وساقونا كالدواب، لنجمع بعدها في الكامب، تلك القطعة العسكرية المصغرة، احتجزنا بداخلها كالبهائم لترويضنا، وإعدادنا للعيش في تلك البلاد الباردة كسكانها.

تضيق نفسي بهذا السجن، وهذا الروتين، حتى طعامهم الغريب لا تقبله معدتي، وترفضه نفسي المحطمة، كل شيء غريب، سأحاول الفرار بأي ثمن.

بعد فراري لم أجد خياراً أمامي إلا أن أجد مسجداً، فمعظم من يرتاده يتقن العربية.. كيف سأسألهم، وأنا لا أتقن لغتهم، فأحاول أن أشير لهم وأصلي أمامهم حتى أكاد أصل للسجود، وهم يضحكون حولي، ويتابعون المسير، حتى بعث الله لي أحد المغاربة الذي أرشدني للمسجد.

وبالفعل وجدت شاباً يافعاً معتكفاً بلحيته الشقراء، ألفت حديثه مكرهاً في البداية؛ لينتشلني من الشارع ورافقته لمنزله لينقذني من عيشة التسول والضياع.
اكتشفت بعدها في حديثه حجم المؤامرة، التي تعرض لها شعبنا من القوى المتحكمة بالعالم، وتجار السلاح، كنا ضحية لتلك المشاريع العظمى.

أشبع نفسي بروح الانتقام، لأعلمه كيف تصنع العبوات والأحزمة الناسفة، جمع لي كل ما أحتاج لصنع قنبلة تمزقهم جميعاً..سأنتقم من ميركل التي لم تنتظرني على الشاطئ، وكل قادة الاتحاد الأوروبي،

سأنتقم لشعبي المنهك المتعب الضائع في تيه الحرب، سأهدي انتصاري عليهم لأسعد وأبو عجاج وقدور وصفوان وسليم وأعتذر لشريفة.

قررنا أن نفجر أنفسنا معاً في أكثر الأسواق كثافة وثراء، وسنحطم تلك المدنية الزائفة المبنية على أشلاء أهلنا، وسأسحق تلك النفوس التي تقتات على ثرواتنا.

سجلنا قبل لحظات من التفجير بيان الانتساب لداعش وتركناه في المنزل كدليل على البيعة، وغادرنا المنزل بثبات لنمزقهم جميعاً.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد