العمل الجماعي.. مهارة وتدريب؟ أم ثقافة ووعي؟

المسألة أكبر من مجرد مهارة نريد اكتسابها أو ثقافة نستوردها أو شيء من هذا القبيل، هي حاجة بل ضرورة، لأن من شأن العمل الجماعي المنظم أن يحول النجاحات الفردية إلى نجاح أكبر تفوق قيمته مجموع النجاحات الفردية

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/26 الساعة 02:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/26 الساعة 02:46 بتوقيت غرينتش

منذ أن نشأت العلوم الإدارية وتطورت -كتجربة إنسانية تراكمية- وهي تُجري أبحاثها وتجاربها في مجتمعاتها التي نشأت فيها الحاجة إليها، وتقوم بتطوير بيئات العمل التي ظهرت فيها، وتتناول الأفراد المحيطين بها بطباعهم ومهاراتهم وثقافتهم في لحظة تاريخية معينة شكلت نقطة الانطلاق لهذه التجارب منذ تايلور وحتى اليوم. فبالتالي لا يمكن لنا بحال اعتبار أن الحلول التي تولدت معهم (هناك) هي بالضرورة صالحة كلها لحل مشاكلنا بذات الشكل والمضمون التي هي عليه.. والسؤال لماذا؟

في تقديري لأن التجارب الإنسانية المختلفة -ومنها الإدارية- بنيت على قاعدة ثقافية ما مغايرة للقاعدة الثقافية التي نقف نحن عليها، ومنظومة القيم التأسيسية التي شيدت عليها الأفكار الحديثة للإدارة مختلفةٌ ليس فقط عن منظومة قيمنا نحن؛ بل حتى عن التجارب الناجحة الأخرى بين بعضها بعضًا، ففلسفة الإدارة في اليابان -مثلاً- مختلفةٌ بشكل أو بآخر عن فلسفة الإدارة في أميركا، والتجربتان لهما من النجاح حظ وافر.

إذن المسألة ليست أن هذه الحلول صحيحة أو خاطئة بالمطلق، بقدر أنها مؤشر عن قدرة الإنسان على إبداع حلول من منطلق الواقع والبيئة المعاشة والثقافة الحاكمة لسلوكياته وعلاقاته مع الآخرين.

قد يقول قائل: إنه التدريب والمهارة التي تحتاج إلى صقل وممارسة.. وأقول: لقد استثمرت مراكز التدريب والتنمية البشرية الكثير -ولا تزال- في استيراد أحدث الآليات والمهارات والممارسات الإدارية المختلفة، وموجة التدريب التي شهدناها في السنوات الأخيرة كانت الأكبر -ربما- في تاريخ مجتمعاتنا، وعدد المراكز المفتوحة وأعداد المدربين المتزايدة لا يستهان بها، لكنها كانت تتكسر -للأسف- وبشكل متكرر عند ارتطامها بصخرة الواقع ولا يتبقى منها إلا الزبد الذي يذهب جفاء بعد وقت قصير! فكنا كما يقول مالك بن نبي: نستورد أدوات المدنية، لكن لا نتعامل معها بشكل حضاري..

أين الخلل؟

الخلل -ربما- يكمن في أن أي محاولة لإصلاح عالم علاقاتنا قبل إصلاح عالم أفكارنا يشبه وضع العربة قبل الحصان! فمهما كان الحصان أصيلاً والعربة فاخرة لن نستطيع التحرك بهما والوضع بهذه الحال!

وكذلك لا يمكن للتدريب على آليات العمل الحديثة ومهاراته أن يغير الأفكار والثقافة التي أسست عليها الآليات القديمة، ونصاب عادة بصدمة الفشل المتكرر عند التنفيذ رغم كل المقدمات النظرية الصحيحة التي سرنا عليها خطوة بخطوة كما هو مكتوب في الكتب المترجمة! باختصار هذه الوصفة ليست لهذا المريض، على الأقل في الوقت الراهن..

لقد تم إنجاز المئات من دورات إدارة الوقت في مؤسسات حكومية وغير حكومية وعلى مستوى الأفراد، لكنها لم تحقق الكثير للأسف! وهذا متوقع، فما فائدة دورة لإدارة الوقت في مؤسسة فيها إنتاجية الموظف أصلاً خمسة عشر دقيقة في اليوم؟ هل المطلوب أن يتطور لينجز عمله في خمس دقائق مثلاً؟ أم أن المشكلة ليست أصلاً مشكلة وقت الذي لدينا منه فائض مسفوح شأنه شأن مواردنا الأخرى؟ وبماذا كان يفكر قسم التدريب والموارد البشرية عندما وضعها على قائمة الاحتياجات التدريبية؟ ماذا عن ثقافة الإنتاجية والفعالية وقيمة الوقت والعمل والمبادرة و.. و.. التي لدينا فيها أصلاً قصور بالوعي بادٍ للعيان؟

وقل مثل ذلك عن العمل الجماعي، حيث أنقل لكم ما يقوله أحد الشباب من سوريا من الذين انخرطوا في هذه الدورات بكثافة، ثم سعى لتطبيق ما فيها بالنص فيقول: "درسونا في دورات القيادة أن تشكيل الفريق يتم على خمس مراحل:

1- (تشكيل Forming).
2- (عصف Storming).
3-(استقرارNorming).
4 –(الإنتاجية أو الأداء Performing).
5- (النهاية adjourning).

وعندما شرعنا بتطبيق ما تعلمناه عمليًّا؛ قمنا بتشكيل أكثر من فريق عمل وفي أكثر من مجال -بعضها تطوعي- حيث كنا نتوقع أننا سنمر تلقائيًّا بالمراحل المذكورة أعلاه، لكن المفاجأة كانت أن معظم الفرق ما إن تدخل مرحلة (العصف) حتى تتوتر الأجواء بطريقة مفرطة بالحساسية ونفقد السيطرة وتقفز الفرق إلى المرحلة الخامسة والأخيرة لينتهي الفريق قبل أداء أي مهمة له! وعلى هذا فقس..

ثم يتساءل الشاب بارتباك: ما الفرق بين العصف عندنا والعصف عندهم ؟".. في رأيي الفرق ببساطة فرق ثقافة وبيئة وليس مجرد فرق بالمهارات، فعملية العصف -مثلاً- أو التوتر التي تصاحب تشكيل الفريق قد تشمل نوعاً من استعراض المهارات وتقديم الذات من خلال إبراز التفوق الذي قد يصل أحيانًا إلى حد الاستعلاء على الآخر لخلق انطباع أول قوي، و.. إلخ من رعونات النفس والمراهقات التي تمارس عادة في هذه المواقف، ففي حين ينظر إليها هناك بعين المحترف على أنها تحصيل حاصل ومرحلة مؤقته ستمر ولا شيء شخصي؛ يرتبك ذات المشهد عندنا ويتوتر بأجواء مشحونة بالشخصنة والتحدي، فأقل تلميحة من هذا النوع تعامل على أنها إهانة شخصية يجب الرد عليها -وربما الصاع بصاعين أو ثلاثة- حتى ولو كلف ذلك فشل المهمة من أساسها أو انحلال الفريق أو تلاشي المنظمة أو.. أو ..إلخ!

وقل مثل ذلك على النقد الذي يعادل الشتيمة عندنا، حيث نقد الفكرة يعني إهانة لصاحبها، وبالتالي فحتى آليات تصحيح عمل الفريق والتغذية الراجعة مهددة من قبل ثقافة تحملها رؤوسنا..

أما عن الولاء المقدم على الكفاءة فحدث ولا حرج! فهي مشكلة عويصة ما زالت تعمل على تعكير صفو الفرق والمنظمات التي يتم تشكيلها تحت أي عنوان، وبالمناسبة فهذه الفكرة بالذات لم تكن حكرًا على أنظمة فاسدة أو علاقات ذوي القربى التي تهيمن على المؤسسات بطريقة الدولة العميقة؛ بل تعدتها إلى الإسلاميين والمشايخ النزيهين -ولو بحسن نية- فكم رأينا من أشياخنا الأفاضل من يقدم أخًا صادقًا لرئاسة صندوق خيري أو استثماري أو مؤسسة تطوعية بدعوى أنه ثقة وخلوق، رغم أنه في الممارسة الإدارية ليس له نصيب لا من قريب ولا من بعيد.

والأمثلة في هذا السياق تطول.. لكن كل ما نريد قوله إن الاحتياج التدريبي لدينا -بخلافهم ربما- ليس في المهارات فقط، بل في العقلية التي تحمل هذه المهارات كي تستخدمها في إطارها الصحيح والبيئة التي تستخدم فيها هذه المهارات.

قناعتي أن المسألة ليست مسألة قدرات؛ فتوفر خامات القدرات اللازمة للنجاح في أفراد مجتمعنا أمر مشاهد، وأكبر دليل عليه النجاحات الحقيقية التي يحققونها هنا وهناك، لكن الملاحظ -للأسف- أن هذه النجاحات لها سِمَتان بارزتان:

الأولى: أن معظمها نجاحات فردية..
والثانية: أن كثيراً منها يتحقق خارج حدود الوطن..
ربما هذا بسبب البيئة الحاضنة الجاهزة لاستيعاب هذه القدرات.. لكن ماذا لو أردنا نحن بناء البيئة الحاضنة عندنا لتسوعب مخرجات التدريب وتنشئها؟
يذكر بعض المفكرين بأن أشياء مثل العقلية والثقافة لمجتمع ما لا يبنيها التدريب العادي، بل تُبنى من خلال بيئات حاضنة وقدوات ثؤثر في سلوك الأفراد على الزمن الطويل قد يستنفد عقدين أو أكثر أحياناً حتى يرينا نقلة واضحة بالحجم الذي نفكر فيه، وبالتالي فحتى التدريبات النوعية مثل التفكير الناقد والإبداعي والعلمي الصحيح وبناء الرؤى السليمة.. إلخ، قد يساهم بالحل بشكل جزئي، لكن تأثيره لا يكتمل ما لم تتوافر تلك المحاضن.

فنقطة البداية التي نفتقدها إذاً هي مؤسسات نموذجية حاضنة تعمل كبوتقة ذات صناعة وطنية -من حيث الثقافة أقصد- بأدوات حديثة تسمح للأفراد بممارسة العمل الجماعي في بيئة صحية تعزز السلوك..

وختاماً يجدر القول بأن المسألة أكبر من مجرد مهارة نريد اكتسابها أو ثقافة نستوردها أو شيء من هذا القبيل، هي حاجة بل ضرورة، لأن من شأن العمل الجماعي المنظم أن يحول النجاحات الفردية إلى نجاح أكبر تفوق قيمته مجموع النجاحات الفردية. فمهمة العمل التنظيمي بطبيعته أن يعظم قيمة مدخلاته إلى الحد الأقصى من المخرجات، ومن أكثر منا بحاجة لهذا الموضوع؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد