هل نعرف القصة بحق؟
يطالعني عدد من إعلانات الطرق في طريقي اليومي إلى العمل، على أحدها تظهر بنت بالكاد فارقت المراهقة، يبدو على وجهها مسحة طفيفة من الحزن بينما تعلو رأسها عبارة "أميرة حبّت أمير.. عارفين القصة دي؟".
لم أفهم قطعًا ما تعني العبارة أول الأمر، ولكني ما لبثت أن اكتشفت ماهية الموضوع عن طريق فيسبوك. القصة ببساطة أن تلك اللافتة الدعائية هي جزء من حملة مناهضة للعنف الأسري يرعاها كل من المجلس القومي للمرأة والأمم المتحدة.
واكتشفت أيضًا أن الإعلان يظل بلا معنى طوال ساعات النهار، وعند هبوط الليل تظهر على وجه البنت -بفعل الإضاءة- كدمات وسحجات ومناشدة للسيدات والبنات بألا "يسكتن" عن العنف.
أسفل الإعلان يوجد عدد من الأرقام المخصصة -في الغالب- لتلقي البلاغات والشكاوى، فلم أفهم بداهة أن عليَّ استخدامها، كان على أحدهم أن يشير إلى هذا على الأقل.
المهم إذن، يجب ألا "نسكت" كنساء على العنف الممارس ضدنا.. فلنتحقق من الإمكانية أولا.
قد لا تعرفين، عزيزتي، أن قانون العقوبات المصري الذي لا ينص صراحة على تجريم العنف الأسري ولا يتضمن تعريفا له أساسا يحتوي على تشكيلة فاخرة من المواد التي يمكن استخدامها عند الضرورة لتبرئة المعتدي كالمادة 17 التي تتيح للقاضي أن يقوم بتخفيف العقوبة إذا اقتضت أحوال الدعوى المتروكة لتقديره الشخصي، والتي طالما ألقيت كطوق نجاة لمرتكبي "جرائم الشرف"، والمادة 60 التي تعفي الجاني من تطبيق العقوبة على كل فعل ارتكبه "بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة" ما يجعلها مادة مثالية في حالات العنف المنزلي الذي يراه العامة نوعًا من "التأديب" المسموح والمقبول دينيًّا.
يحق للمرأة طبعا أن تلاحق المعتدي عليها جنائيًّا، ولكن ثمة مجموعة بسيطة من العوائق تبدأ بتعليق الدعاوى والمماطلة في معالجتها قضائيًّا من قبل الجهات الأمنية المعنية، مرورا بإلزام المرأة بإثبات الضرر الواقع عليها بواسطة شهود عيان، ما يفسد معظم قضايا العنف المنزلي، هذا إلى جانب حقيقة أن شهادة الرجل تعادل شهادة امرأتين وإلزام المرأة بالإذعان لمساعي الصلح قبل منحها الطلاق، حتى في حالات الضرر الجسدي، ونهاية بعدم وجود تدابير قانونية تسمح بإجبار مرتكبي العنف على البقاء بعيدًا عن الضحية.
الأنكى أن "دور الأمان" التابعة للحكومة والمنوط بها توفير محلَّ لجوء للنساء المعنَّفات تفتقر للموارد والكفاءات المدربة على التعامل مع ضحايا العنف، فضلًا عن غياب برامج التأهيل، ولا يمكن، بشكل عام، التعويل عليها لحماية النساء المعوزات (واللاتي يتعرضن للعنف بشكل أكثر كثافة من المُمَكَّنات ماديًّا) من شر الاعتماد على الزوج كعائل.
هل يخفى ذلك على رعاة الحملة؟ قطعا لا!
فأدراج المجلس القومي للمرأة تحوي مسودة قانون لتجريم العنف الأسري، بالإضافة إلى مئات التوصيات المنبثقة من مئات المؤتمرات وحلقات النقاش والموائد المستديرة والمستطيلة التي تكدست فوق بعضها بعضًا على مدار سنين لم نتقدم فيها خطوة واحدة في هذا الشأن، كما أن لدينا مسودة أخرى لقانون أعده مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب ولم يتم تمريرها هي الأخرى.
هذا في الوقت الذي شهد العام الفائت تمرير البرلمان اللبناني لقانون مناهضة العنف الأسري دون تعديل واحد بعد ثلاث سنوات من رفض دار الإفتاء اللبناني لنفس القانون بدعوى احتوائه على مخالفات شرعية من شأنها تفكيك الأسرة المسلمة، وموافقة البرلمان الجزائري على تشديد العقوبات الخاصة على الزوج الذي يمارس العنف الجسدي أو "المعنوي" بحق زوجته.
على ناحية أخرى، وبمناسبة التوزيع الجغرافي شديد الغرابة للافتات الإعلانية، وفقا للمسح الديمغرافي والصحي لسنة 2014، فإن النساء الريفيات أكثر عرضة للعنف الأسري الجسدي (38% من النساء الريفيات معرضات للعنف في مقابل 32% من نساء الحضر)، ووفقا لنفس المسح فإن 40% من النساء اللاتي يتعرضن للعنف الأسري لم يحظين بأي تعليم يذكر، بينما تنخفض نسبة العنف الأسري إلى 28% بين النساء الحاصلات على شهادات عليا.
أي أن فئة النساء التي تندرج تحت "الأكثر عرضة" للظاهرة محل الدراسة لن يرين الدعاية المتمركزة في العاصمة الحضرية، وإن رأينها لن يفهمن ما تعنيه لأنهن أميات بالأساس!
تصميم الإعلان نفسه يصلح كشاهد على الحالة، فالإعلان يُظْهِر الرسالة المراد إيصالها في عتمة الليل والناس نيام والشوارع خالية، وما يلبث أن يشرق النهار عليه ويتوافد المارة والركّاب حتّى تختفي الرسالة. أو كما نقول بالعامية الفصيحة "كلام الليل مدهون زبدة، يطلع عليه النهار.. يسيح".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.