مجموعة صور لأطفال دون السابعة من العمر تنشرُها إحدى الصفحات على فيسبوك "صفحة حضانة" ويتمّ ترويس كل صورة بــ"أنا زيد صوتوا لي" وصورة أخرى حملَت "أنا رهف صوتوا لي" وعدّة صور أخرى، على ما يبدو كان سباقاً بين مجموعة من أطفال هذه الحضانة، ليفوز بالمركز الأوّل من يحصد عدد أكبر من الإعجاب.
بأيّ ضمير يستطيع أصحاب هذه الفكرة السماح لأنفسهم بإقحام الأطفال في هذه المعضلة "الرقميّة".. في هذا الصراع ربّما أو المنافسة غير الشريفة، إنّها لا تعتمد على كفاءة أيّ من الطفلين حتّى، ولا حتّى على جدّهما واجتهادهما وتحصيلهما العلميّ، إنّها مبنيّة على كميّة "لايكات" تُحصد من هنا وهناك تبعاً لشكل أو هيئة أو كثرة عدد معارف -وبالأحرى- معجبي هذا الطفل أو ذاك، تاركةً في داخل هذا الطفل الأقل تصويتاً أثراً مُستفزًّا في أفضل الأحوال، يخرج الطفل من دائرة المنافسة الشريفة بغية حثّه على الدراسة والتعلّم وكسب المواهب نحو دائرة الأهداف الجوفاء، و كلّ هذا بإشراف الحضانة.
ولكن من زاويةٍ أخرى أكثر واقعيّة -ربّما- فرغم أنّ هذا السلوك خاطئ 100% وبرغم الآثار النفسيّة التي ستصيب الطفل عاجلاً أو آجلاً، أعتقد أنّ هذا الطفل لن يستهجن هذه الطريقة في المفاضلة بينه وبين زملائه في الحضانة أو في المدرسة، لاسيّما أنّه قد أصبحَ اليوم أسير هذا المشهد وربّما أراد أن يصبح بطلاً من أبطال هذا السباق الإلكتروني.
فالمشهد اليوميّ هو هذا التلفاز وما ينتجه من برامج لا يستوي لها سبيل إلّا بطريقة المفاضلة هذه، مَن أكثر المطربين تصويتاً في برنامج كــ"The Voic"؟ ومَن أكثر المشتركين تصويتاً في برنامج كــ"Arab Idol"؟ ومن هو المتسابق الأكثر متابعةً على وسائل التواصل الاجتماعي؟ ومن هي الراقصة الأكثر مشاهدةً في برنامج آخر؟
أمّا على وسائل التواصل الاجتماعي فيستمرّ ترسيخ هذه الثقافة مرة أخرى، سواءً على الفيسبوك أو إنستغرام أو تويتر، وعن ترجمةٍ حقيقيّةٍ للقيمة الإلكترونيّة للإنسان سيجد صاحب الفيديو الأكثر مشاهدةً على يوتيوب مكاناً له في استديوهات أكثر القنوات الفضائيّة العربيّة والعالميّة مهما كان محتوى هذه المقطع تافهاً أو سطحياً أو ربّما فلنقُل مسلّياً في أفضل الأحوال وقد يتحوّل هذا الشخص إلى أحد المشاهير وربّما سيُزجّ بالبعض في السينما جرّاء فيديو بسيط تمّ تصويره بهاتف نقّال في غفلةٍ عن نتائج انتشاره ومن ثمّ سيتدرّج من مراهق في منزله إلى ممثّل ومن ثمّ إلى بطلٍ ربّما، وهكذا فإنّ الشهرة والأضواء ستكون ثمناً مقابلاً ل"قيمتك الإلكترونيّة".
بعيداً عن الكفاءة، بعيداً عمّا هو مفيد أو مجدٍ لم يعد هناك مكان في قاموس عباراتنا الشائعة لعبارة "أصبح شيئاً من لا شيء" أو "صنع شيئاً من لا شيء"، هذا الـ"لا شيء" هو تلك القيمة المعدومة قبل اكتشاف القيمة الإلكترونيّة في هذا الوقت المعاصر.
ربّما جلبت لحية أحد المشتركين المثيرة تصويتاً أعلى في إحدى هذه البرامج، أو ابتسامة مسبوقةٌ بغمزةٍ لإحدى المشتركات ستُثير معجباً آخر يُضاف لقيمتها الإلكترونيّة وبالتالي لربحها أو خسارتها وبالتالي لقيمتها المستقبليّة.
مارس الإعلام وكل وسائل التواصل الاجتماعي هذه الطريقة في المفاضلة بين البشر ضمن إطارٍ يثمر أرباحًا في النهاية -كالعادة- فإنّ طرح قضيّة رأي عام على الملأ في بلادنا لن يكون الهدف منه الاهتمام الكبير برأيك وإنّما لجلب أكبر عدد من المتابعين والمهتمّين بالقضيّة وعندما كان بحث القنوات عن الجمهور جاء ترسيخ فكرة القيمة الإلكترونيّة لتلبية رغبة المتابع في كسب الشهرة بأي طريقة ورغبة الإعلام في تحريض أكبر عدد من المتنافسين على هذه الرغبة.
لا شكّ أنّ هذه القيمة الإلكترونيّة سلّطت الضوء على كثير من القضايا التي لم تكن لترى النّور لولا عدد مشاهدات مهول، مثلاً لمقطع فيديو "تحرّش جنسيّ جماعي" في إحدى الدّول العربيّة نشره أحد المصوّرين على يوتيوب، ومن ثمّ تمّت مناقشة أسباب هذه الفعلة الشنيعة وطرق علاجها، ولكن في الوقت نفسه تسأل نفسك، هل جاء عدد المشاهدات الكبير هذا على خلفيّة اهتمام المشاهد بالقضيّة ذاتها؟ أم بمحتوى هذا المقطع الذي ربّما احتوى على عدّة مشاهد إباحيّة -أو مثيرة على الأقلّ- جذبت المشاهد أو استدرجته على الأقلّ؟
إنّك ستجد العديد من أرباب الكفاءات والثقافات أو أصحاب الأفكار الرائعة والخلّاقة لا يحظون بعدد مشاهدات عالٍ أو بمتابعة مليونيّة وبالتالي لا اهتمام بهم، ويأتي السؤال هنا "ما الذي يثير المشاهد والمتابع، ما الذي يستفزّ يده ليمسك بفأرته ليضغط مشاهدة أو لوحة مفاتيحه ليكتب تعليقاً مؤيداً أو ليلمس هاتفه الذكيّ لاهثاً خلف هذا المقطع أو ذاك المنشور أو تلك الصورة؟".
إذا قلنا أخيراً إن فكرة القيمة الإلكترونيّة من الممكن أن تكون سلاحاً ذا حدّين، فحتّى ذلك الحدّ النافع لا يُمارس بمنطقٍ واحد أو واعٍ على الأقلّ وفي مثال مقطع "التحرّش الجنسيّ" أكبر دليل.. ولن تكون المشكلة في أن تُضاف القيمة هذه لبقيّة القيم لديك، ولكن يكمن الدّاء في أن تصبح هذه هي القيمة الوحيدة لك.
عزيزي القارئ.. ربّما ستضطرّ لتسأل نفسك يوماً ما "ما هي قيمتي الإلكترونيّة؟!"..
وسيجيبك حينها حاسبك الشخصيّ أو هاتفك الذكيّ.