بين البحر المتوسط، وجبال الجزائر الخضراء تقع مدينة آوقاس الهادئة في ولاية بجاية (270 كلم شرق العاصمة الجزائر)، في هذه المدينة، كرس حكيم سعيدي هذا الشاب الأمازيغي حياته لخدمة بلدته وأهلها بطريقة فريدة.
لم يضيع سعيدي وقته في الشكوى من تجاهل الحكومة لمدينته مثلما يفعل غيره من الشباب في المدن العربية الصغيرة، إذ قرر أن يعمل بيديه من أجل مدينته دون أن يوقفه خجل أو تعب.
"رجل بحجم دولة"، هكذا وصف البعض الجزائري حكيم سعيدي البالغ من العمر 40 عاماً، فماذا فعل هذا الرجل ليستحق كل هذا الثناء والتكريم!
ماذا فعل لمدينته؟
لو ذهبت في زيارة إلى مدينة أوقاس، ستُفاجأ أن شوارع وأزقة هذه المدينة الصغيرة خالية تماماً من القمامة والقاذورات، بل وحتى الغبار أحياناً، والفضل يعود إلى حكيم سعيدي الذي قطع عهداً على نفسه بأن يواصل العناية بنظافة مدينته إلى آخر رمق في حياته.
ولكن لماذا كرس حياته لهذه المهمة؟ يقول سعيدي إنه يقيس سعادته في الحياة بمدى نظافة محيطه منذ كان طفلاً صغيراً".
ويضيف لعربي بوست "السعادة في نفسي نابعة من جمال بيئتي ومحيطي، ولو أن كل شخص اهتم بتنظيف محيط حياته لعمت السعادة جميع أرجاء الوطن، وهذا هو أصل الإيمان".
ويتساءل " لماذا نتقزز من عمال النظافة الذين يسهرون ويجتهدون من أجل سعادتنا، ونفرح لحالنا ونحن نعكر صفو مدينتنا برمينا للقاذورات بشكل عشوائي؟".
سبع سنوات نظافة
انطلقت هذه المهمة الشاقة، في صيف سنة 2010، عندما قرر حكيم سعيدي وذلك بمساعدة بعض الشباب جمع القمامة التي كانت ملقاة في حي "ال/ 90 مسكنا" بأوقاس، بعدما أصبح المشهد مقززاً أمام المارة.
من هناك كانت الانطلاقة"، يقول سعيدي "لاحظت بعد نجاح التجربة بأن الحي تغيرت صورته تماما، وأصبح الكبير والصغير سعداء بين الحدائق التي كانت مكاناً للقاذورات، بل فوق ذلك بات هذا الأمر بمثابة سلوك دوري لأبناء الحي".
اليوم ومع مرور 7 سنوات من الجهد يقول حكيم "يكفينا شرفاً أننا غرسنا في عقول أبناء مدينة "أوقاس" فكرة 'النظافة مسؤولية الجميع'، ولا يزال المشوار مستمراً إلى آخر رمق".
يعمل لحساب من؟
لا ينتمي حكيم سعيدي لأي هيئة حكومية أو غير حكومية، ولا لأي جمعية خيرية أو ثقافية، بل يقوم بعمله بصورة انفرادية وتطوعية منذ 2010. فعملية تنظيف المحيط والبيئة، في نظر سعيدي "لا يجب بالضرورة أن تكون بمقابل، لأنها تخص حياتنا وصحتنا قبل كل شيء".
وهذا لم يمنع سعيدي من توجيه التحية لكل الجمعيات الناشطة في مجال تفعيل الخير والمواطنة، وحتى الثقافة والرياضة، غير أنه يستدرك قائلاً "لكني أؤكد بأنني لا أنتمي لأي منها، فأنا أقوم بهذا العمل بصفتي مواطناً عادياً جداً ومن سلوكيات يومياتي".
وكشف أن "لجان بعض الأحياء السكنية تحاول منحه مقابلاً لما يقوم به من عمليات التنظيف، لكنه رفض، لأنه قطع عهداً على نفسه أن يواصل هذا العمل بشكل تطوعي".
هذا مرشده الأعلى
والد حكيم هو الذي غرس هذه السلوكيات لديه، إذ يقول "قبل وفاته بأيام أوصاني والدي بإلحاح بمواصلة دربه بتنظيف المحيط، وسقاية الأشجار والبشر، وأن أعمل ذلك كله لوجه الله، إذ كان حريصاً جداً على مثل هكذا أعمال خيرية وتطوعية".
ويضيف "والدي كان مهتماً كثيراً بعملية توزيع الماء من البئر التي نمتلكها على العائلات وبعض المؤسسات، خاصة في أيام الصيف، كما لا يدخر جهداً في إزالة القمامة والشوائب على حواف الطرق".
جرار الأمل
يملك حكيم سعيدي جراراً هو بمثابة أمل مدينة أوقاس، للدور الذي يقوم به في الحفاظ على البيئة والمحيط، وفوق ذلك فالجرار مزين بالورود ليعكس مهامه التجميلية.
وعن هذا الجرار، يقول أشرف ماحمدي شاب من أوقاس لعربي بوست "هذا الجرار أصبح من يوميات أوقاس الجميلة، ولما نراه يشق طريقه بين الأزقة والأحياء، نشعر بالحياة".
وهو ما اتفق معه فاتح بوحميلة نائب رئيس جمعية آزداي الثقافية بمدينة أوقاس، قائلاً "نحن في أوقاس اعتدنا على هذه الصورة الجميلة، حكيم والجرار البرتقالي".
وطالب بوحميلة من المدرسين بالمؤسسات التعليمية، بتقديم حكيم سعيدي كمثال المواطن الصالح والإيجابي للتلاميذ، حتى تترسخ لديهم قيمة أن النظافة من الحضارة.
المستشفيات والمدارس أيضاً
لا يكتفي حكيم سعيدي في مهمته التطوعية بتنظيف الشوارع والأزقة وبعض الأحياء السكنية، بل وامتد نشاطه إلى مؤسسات الدولة، لاسيما المدارس التعليمية والمستشفيات.
ويضيف " أقوم بتنظيم حملات نظافة بشكل دوري، وأحياناً تكون الحملة تحت أعين التلاميذ لكي تترسخ لديهم فوائد النظافة".
وإضافة لذلك، يقوم سعيدي بتوفير الماء لهذه المؤسسات عن طريق صهريج خاص، في ظل أزمة المياه والجفاف الذي ضرب ولاية بجاية في السنوات الأخيرة.
ينظف مائدتك
لم يقصر حكيم اهتمامه على نظافة الأماكن العامة ولكنه يشارك المواطنين أفراحهم وأحزانهم بطريقته الخاصة.
إذ يعمد حكيم سعيدي لتوفير صهاريج المياه لكل العائلات المعوزة، خاصة في المناسبات كالأعياد وشهر رمضان، كما يوفر المياه في الأعراس والجنائز، كما لا يجد حرجاً في تنظيف محيط الولائم والجنائز بعد المناسبات.
فاتح بوحميلة نائب رئيس جمعية آزداي بأوقاس يؤكد أن هناك عدداً من الشباب ممثلي الحركة الجمعوية بالمنطقة، باتوا يقتدون بالسلوك الإيجابي لسعيدي حكيم، من خلال تنظيم حملات تنظيف، ومساعدة المواطنين في الأفراح والأحزان.
عشقه الأبدي
مهما تعددت مهام سعيدي، إلا أن علاقته بالشجرة تبقى متميزة للغاية، فأغلب الشجيرات التي تزين مؤسسات التعليم والمؤسسات الرياضية والشبابية بأوقاس، تحمل بصمته.
فقد شارك سعيدي في أغلب الحملات الخاصة بغرس الأشجار في قلب مدينة أوقاس وعلى طول الطريق الوطني بالمنطقة، ويعتني بها عبر السقي المتكرر، والتقليم المتواصل.
وفي هذا الشأن، يقول سعيدي "يصيبني ألم كبير عندما أجد أشجاراً مكسورة الأغصان ويابسة، ولذا أنا أقوم بشكل دوري بمراقبة جميع الأشجار التي نغرسها، لسقايتها والاعتناء بها، وإزالة اليابس منها".
تكريم وإشادة
السلوك الحضاري لهذا الشاب، جعله تحت الأضواء من قبل جميع الهيئات، وتم تكريمه مراراً من قبل مصالح بلدية أوقاس، كما أثنى عليه رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وتمنوا من كل جزائري وعربي أن يحذو حذوه، للحفاظ على المسار الحقيقي للخير والحضارة والتمدن.
فالمنشورات التي تكتب عن حكيم سعيدي في الغالب تكون تتلقى آلاف الإعجابات والتعليقات، والتي تعكس تعطش المواطن العربي لمثل هذه السلوكات.
نجح فيما فشلت فيه الدولة
استطاع هذا الشاب صنع أشياء عجزت عنها حتى كبريات البلديات والدوائر في الجزائر والتي تبقى كثير منها غارقة في القمامة.
هذا الوضع جعل وزارة الداخلية والجماعات المحلية في الجزائر، تستنجد بالجمعيات والكشافة الإسلامية، لإنجاح حملة وطنية بدأت في 17 سبتمبر/أيلول 2017، وتستهدف إزالة القاذورات من 21 ولاية.
ويقول الناشط بوحميلة فاتح "إن هذا الرجل حكيم سعيدي صار بحجم دولة، فقد استطاع وحده أن يتكفل بنظافة مدينة فاق عدد سكانها 40 ألف نسمة، بينما هناك بلديات لا يتعدى سكانها الـ10 آلاف شخص، عجزت على خلق محيط نظيف رغم الميزانية والإمكانيات البشرية والمادية".