في الملعب العراقي هناك أطرافٌ عدة تتزعّم المشهد بشِقَيه المدني والعسكري، وتقسّمت أدوار اللاعبين بحسب هدف كلِّ طرف والظروفِ التي حكمت الجميع.
فبعد غزوِ العراق واحتلاله، ووفق المتغيرات التي طرأت على البلد، انقسم المجتمع العراقي بين مؤيدٍ للعملية السياسية وبين مناهضٍ للاحتلال الأميركيّ ومعارضٍ للعملية السياسية التي أنشأها الاحتلال.
وعلى ضوء ذلك ظهر صراع بين قوى سياسية وأحزاب من جهة، وفصائل مقاومة ومعارضة من جهة أخرى، وصار الطرفان خصمين، كلٌّ منهما في خندق، وبما لا يقبل الشك بقيَ مَنْ في خندق أميركا وتحالفها على هرم مقاليدِ السلطة، أما الخندق الآخر فكان عُرضة لكل أنواع التضييق والاضطهاد، وحطمت جميع لوائح القوانين والحقوق معه، وشهد المؤيدون له أبشع الانتهاكات بحقهم؛ لتكون نهايتهم التشظي والتفتت والنزوح وليدفعوا ضريبة مقاومتهم ثمناً قاسياً، وربما ما كانوا ليتمنَّوا لخصومهم ما حصل معهم.
في المقابل تعاون إدارة أوباما وإيران لعدة سنوات في إدارة الملف العراقي، سمح لإيران ببناء قاعدة شعبية وسياسية وعسكرية في العراق جعلت منها صاحبة القرار والآمر الناهي فيه، وهذا الأمر مهّدت له أميركا من خلال فرض هيمنة شخصيات وأحزاب سياسية على ملف إدارة البلاد لها ولاءٌ مُطلَقٌ لإيران، وغض إدارة أوباما الطرف عن تنامي دورِ الميليشيات وتغولها في المجتمع العراقي، حتى إنّ تقاريرَ مسربة أظهرت تدريب قوات أميركية لفصائلَ في ميليشيا الحشد وأخرى أثبتت الدعم الأميركي لميليشياتٍ ولاؤها لإيران، من خلال السلاح الذي تستخدمه تلك الميليشيات، ناهيك عن الغطاء الجوي الذي أمنته الطائرات الأميركية في المعارك الأخيرة.
وهذا ما يؤكد أن واشنطن استخدمت أسلوب الحرب بالوكالة في مسألة الشراكة الأميركية الإيرانية، أما لماذا كلّ هذا الدعم والتبني الأميركي لفصائلَ تدرك جيداً أنّ نبضها إيراني، فلا بد من العودة إلى مطلع العام 2005، الوقت الذي بدأ فيه التعاون الفعلي ورضخت أميركا للمشروع الإيرانيّ في العراق، المشروع الذي يُفضي إلى انقسام المجتمع العراقي مذهبياً، وعسكرة طرف ضد آخر، فتم إنشاء جيش، وما يسمّى بمغاوير الداخلية، وهي عبارة عن ألوية مثل: لواء الذيب، ولواء العقرب، ولواء الأسد، وأعطي الضوء الأخضر إلى ما يسمى بجيش المهدي؛ لبيع سلاحه لقوات الاحتلال الأميركي.
وآنذاك تزاحمت طوابير البائعين، وتهافت أولئك الذين ادَّعوا في فترة من الفترات مقاومتهم للاحتلال بغية تحقيق مكاسب ونجحوا بذلك، حيث تم فرضهم على التحالف الشيعي، وسلّموا ملف إفراغ بغداد من السُّنة، باعتبارهم إرهابيين ومساندين للإرهاب، وعمدوا إلى محاربة المقاومة العراقية التي كانت تتمثل بعدة فصائل من أهل السُّنة تطوعوا لإخراج المحتلّ، والدفاع عن الأرض والعرض، لكن باحتضان الاحتلال للفكر الإيرانيّ في العراق، والتفاف وإلزام المجتمع بوجود حكومة مدعمة بعدة فصائل شيعية شكلتها أحزاب وجماعات موالية لطهران وجهاتٌ سنية وكردية لها ولاء وانتماء خارجي تم دفعهم لتعزيز التشظي المجتمعي وكممثلين هزيلين للشعب الذي يجهله صارت المقاومة تسمّى إرهاباً، وصار كل من يهاجم الجنود الأميركان عُرضة للقتل والاعتقال، وهذا الأمر صار شرعياً بالنسبة للبعض، لا سيما أولئك المشاركين في مؤتمر لندن قبيل غزو العراق واحتلاله.
كما أن معظم علماء الشيعة وعلى رأسهم السيستاني رأوا في الولايات المتحدة وحلفائها محررين ولا يمكن الاعتداء عليهم، ومن هذا المنطلق عمل جيش المهدي بقيادة مقتدى الصدر على تنفيذ المهمة المناطة بهم، وعاشت بغداد أياماً مظلمة من حيث اتساع مساحة الجريمة المنظمة وظهور عناصر مدنية مسلحة بين الحين، والآخر تختطف على الهوية بدافع مذهبي وطائفي، وتقتل وتهجر، حتى انتشرت مصطلحات في العاصمة مقترنة بهؤلاء مثل "البطة والسدة"، والبطة هي نوع من سيارات تويوتا الصالون صار يقودها ما يسمّون أنفسهم "الصكاكة" وهؤلاء مهمتُهم تصفية أسماء ترد إليهم من مكتب الصدر في المنطقة التي ينشطون فيها؛ إذ فتح مقتدى عدة مكاتب له في بغداد،
ومعظم من تتم تصفيتهم هم أئمة مساجد وأساتذة جامعيون ومؤذنون وأعضاء في حزب البعث، إضافة إلى جميع الشباب الذين يترددون إلى المساجد ويتحدثون بقتال المحتل، وأحياناً يُقتل أشخاص ليسوا ضمن المصنفين بالخطرين لدى هؤلاء، أما السدة فهي مشروع قرب مدينة الثورة أو ما تسمى حالياً "مدينة الصدر"، وهذا المكان تلقى فيه جثث المختطفين بعد قتلهم، حيث كان كلّ من يختطف يذهب أهله للبحث عنه هناك، وعادة لا يذهبون بأنفسهم، فقد اختص سماسرة من المنطقة ذاتها بالبحث عن الجثث مقابل مبالغ مادية، ومن ضمن ما أنيط لجيش المهدي حرق المساجد وتفجيرها والاستيلاء على بعضها، أما فيلق بدر جناح حزب الدعوة العسكري، فهذا كانت مهمته واضحة،
قتل العلماء والضباط والخبراء والطيارين وكل من أسهم في التأثير على نجاح العراق بالتصدي لإيران، وكذلك عملوا على إنشاء فصائل في الدولة تتبع لهم وخرج معظم قيادات تلك الفصائل من مدارس إيران العسكرية، بالإضافة إلى التغول في مؤسسات الدولة، لا سيما العسكرية منها، ونجح زعيم بدر هادي العامري من خلال قربه من رئيس الحكومة السابق نوري المالكي والذي استمر بمنصبه لدورتين متتاليتين في أن يكون فيلق بدر صاحب الكعب الأعلى في الشرطة الاتحادية، ومن ثم بعد ذلك الاستحواذ عليها بشكل تام، في حين عمل المالكي بموافقة أمريكية على إنشاء ما كانت تسمّى شعبياً "الفرقة القذرة" وذلك لارتباط تصرفاتها وأفعالها بالفرقة القذرة في الجيش الأميركي التي قيل إنها عملت على تدريب نسختها العراقية لخلافتها بعد الانسحاب، ورغم سعي عبد العزيز الحكيم الحثيث للاستحواذ على قوى الأمن في العراق، وحصوله على ما سمّي آنذاك بقوات حماية الطرق، كذلك تأسيسه جهاز مخابرات رديفاً للجهاز الذي أنشأه الاحتلال الأميركي، وعيّنَ له قائداً سُنياً،
ومعظم مَن تمّ توظيفهم لا يأتمرون لممثلي إيران في الحكومة، لكن نجاح إيران بالإبقاء على المالكي لدورة ثانية سمح بتفكيك جهاز المخابرات الأول وتعزيز الرديف، كذلك موت الحكيم أضعف من دور المجلس الأعلى الذي كان يتزعمه، لا سيما أنّ خلفه عمار الحكيم ليس بتأثيره إقليمياً ومحلياً، فتم سحب وزارة الداخلية ووزارات أخرى منه بالرغم من أن وزراء الحكيم في الحكومة قدموا ما هو مطلوب منهم، واشتُهروا بالقتل والتعذيب والتنكيل كوزير الداخلية الأسبق بيان جبر صولاغ الذي سُمّي بـ"صولاغ دريل"؛ لكونه استخدم آلة الثقب الكهربائي "الدريل" في تعذيب المعتقلين السنة، ورميهم بعد ذلك في مكبّات النفايات؛ ليأتي نوري المالكي بعد نجاحه بإقناع الأميركان من خلال عملية عسكرية ضد خصومه الشيعة، وأبرزهم جيش المهدي، وسُمّيت "صولة الفرسان"، وبذلك يكون المالكي وحزبه الدعوة قد سحب البساط من تحت كثير من الشركاء؛ ليستفرد وأتباعه بالأجهزة الأمنية والعسكرية.
ويبدو أنّ الصدر عائدٌ بخبرة السنين، لا سيما بعد نجاحه بالاستيلاء على التظاهرات، وصار المحرّك الرئيسي لها، إضافة إلى أنه يتبع نهجاً عُرف أخيراً، وهذا النهجُ "هَجِينٌ" تختلط فيه العلمانية بالدينية، حيث تمكنت أحزابٌ وشخصيات سياسية من تأمين ما هو مطلوب في الساحة الدولية، وصارت الدولة المدنية غطاءً لكثيرين مثل الصدر وحيدر العبادي رئيس الحكومة الحالي، وسليم الجبوري رئيس البرلمان، والقائمة طويلة..
وفي ظل الوضع الراهن ورفض الإدارة الأميركية الإطاحة بالعملية السياسية الحالية رغم فشلها المستمر وبقاء الوجوه ذاتها منذ أول حكومةٍ بعد الاحتلال، وامتلاك أركانها من الأحزاب والجبهات السياسية لميليشيات وفصائل مسلحة متهمة بجرائمَ لا تحصى، مع وجود كفاءات عراقية خارج وداخل البلد، ما يؤكد أنّ دوام الحال هذا يراد له أن يستمر؛ إذ يبدو أنّ وكلاء الاحتلال والدول الإقليمية يقدّمون ما هو مطلوب منهم، ودلوُ النجاة سيبقى ممدوداً لهم طالما أبقَوا العراق في بئر الظلمات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.