ما بعد المساء التركي الطويل

الآن، صار لدينا وفي بلد محوري في الشرق الأوسط دليلا واقعيا على تمسك مجتمع المواطنات والمواطنين بالديمقراطية على الرغم من نواقصها، وعلى امتناع النخب العلمانية عن التخلي عن الديمقراطية وامتناعها عن الاستسلام للسحر المخادع للانقلابات العسكرية مهما رفعت من يافطات ليبرالية وحرياتية ووعدت بإخراج الدين من الحكم والسياسة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/27 الساعة 04:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/27 الساعة 04:32 بتوقيت غرينتش

لم يسبق في منطقة الشرق الأوسط أن وأدت محاولة انقلاب عسكري على حكومة منتخبة أو على تحول ديمقراطي. في النصف الثاني من القرن العشرين، أطاح الجيش التركي أكثر من مرة بالحكومات المنتخبة وأخضع البلاد إما لإدارته المباشرة أو لإدارة وسطائه من السياسيين المدنيين. في التسعينيات، انقلب الجيش الجزائري على البدايات الديمقراطية وعلى نتائج الانتخابات البرلمانية التي حسمتها لصالحها التيارات الدينية. في مصر، مثل الثالث من تموز / يوليو ٢٠١٣ انقلابا عسكريا على الإجراءات الديمقراطية والمؤسسات المنتخبة وعودة لسيطرة المكون العسكري-الأمني على السلطات العامة وشؤون الحكم.

في تركيا والجزائر ومصر، أعقب الانقلابات العسكرية على الحكومات المنتخبة أو التحولات الديمقراطية من جهة أولى تطبيق سياسات عنيفة وممارسات قمعية ممنهجة وانتهاكات واسعة ضد المعارضين، ومن جهة ثانية فرض حصار إماتة على الفضاء العام وحصار إلغاء على التنظيمات المستقلة في المجتمع المدني (من النقابات والأحزاب إلى الحركات الاجتماعية) وحصار تهجير على المواطن الذي أريد له تناسي ذاكرة المشاركة الحرة عبر صناديق الاقتراع، ومن جهة ثالثة صياغة شرعية زائفة للجنرالات الحاكمين باستدعاء "لحظة استثناء" مزعومة وبتداول تراكيب "الأخطار والمؤامرات المحدقة بالوطن" وتوظيفها لتبرير سيطرة المكون العسكري-الأمني وتمرير فرض الرأي الواحد والصوت الواحد على الناس.

في تركيا والجزائر ومصر، زجت الانقلابات العسكرية ببنى الدولة الوطنية إلى متوالية تهميش متصاعد للمؤسسات والأجهزة المدنية، وعصف لا يخضع للمساءلة والمحاسبة بسيادة القانون، وتشويه للأطر الدستورية من خلال رفع الجيوش إلى مصاف "الدول خارج الدول" وإطلاق اليد القمعية للأجهزة الأمنية والاستخباراتية. رتبت الانقلابات أيضا إما اصطناعا كارثيا للصراعات المجتمعية بين مؤيدي ورافضي حكم الجنرالات أو تعميما لوضعية الاستقطاب والعداء بين الشرائح الشعبية المستتبعة (المستفيدة والخائفة) والمعارضة، وفي الحالتين أوقعت البلدان المعنية في الدوائر اللعينة للعنف الرسمي والعنف المضاد التي ليس لها من خلاص سريع.

هكذا كان فعل وسلوك الجنرالات العسكريين وأعوانهم في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، وهكذا تورطت شرائح المستفيدين والخائفين في تأييد أو ممالأة قمع وانتهاكات واسعة، وهكذا تراجعت شرعية بنى الدولة الوطنية وفتحت طاقات الصراع والعنف في المجتمع. لا فارق بين الجنرال كنعان إيفرين في تركيا الثمانينيات وبين جنرالات الجيش والاستخبارات في جزائر التسعينيات وبين الفريق / المشير عبد الفتاح السيسي في مصر ما بعد ٢٠١٣.

الآن وبعد المساء التركي الطويل في الخامس عشر من تموز / يوليو ٢٠١٦، صار لدينا في الشرق الأوسط سابقة أولى لمحاولة انقلاب فاشلة على حكومة منتخبة وسابقة أولى أيضا لرفض أحزاب وتيارات في المعارضة للانقلاب وانحيازهم للديمقراطية ودفاعهم عن بقاء الحكومة المنتخبة على الرغم من كون الأخيرة تمعن في التجاوزات السلطوية مثلما يمعن رئيس الجمهورية رجب طيب إردوغان في النزوع السلطاني.

وعندما يضاف إلى هاتين السابقتين حقيقة ثالثة وهي أن أحزاب وتيارات المعارضة في تركيا تنتمي (بمضامين متنوعة) إلى المساحة العلمانية وأنها ناصرت بقاء الحكومة المنتخبة لحزب العدالة والتنمية المعبر عن الإسلام السياسي، وحقيقة رابعة ترتبط بالدور الملهم الذي اضطلع به المواطن بحضوره إلى الشوارع والميادين العامة للإسهام في إفشال محاولة الانقلاب وهو دور غير قابل للاختزال إلى مجرد "نزول مناصري حزب العدالة والتنمية ودفاعهم عن رئيسهم وحكومتهم"، نصبح إزاء وضعية جديدة جوهرها التأييد السياسي والشعبي الراسخ للديمقراطية ولمؤسساتها وإجراءاتها على الرغم من نواقصها العديدة وتمردا على حسابات الصراع الإيديولوجي بين العلمانيين والإسلاميين.

كانت نواقص الممارسة الديمقراطية في تركيا الثمانينيات واختلالات البدايات الديمقراطية في جزائر التسعينيات ومصر ٢٠١١-٢٠١٣، مضافا إليها الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، هي البوابة الخطيرة التي نفذ منها جنرالات الجيوش والأمن والاستخبارات لإدارة الانقلابات. ومثلت الصراعات الإيديولوجية بين العلمانيين والإسلاميين، وكذلك مراوحة الطبقات الوسطى (المدينية خاصة) بين الانفتاح على التحولات الديمقراطية وبين الخوف منها على المكانة والمكاسب والعوائد، ساحات إضافية لتبرير وتمرير الانقلابات وما تلاها من قمع ممنهج وانتهاكات واسعة.

الآن، صار لدينا وفي بلد محوري في الشرق الأوسط دليلا واقعيا على تمسك مجتمع المواطنات والمواطنين بالديمقراطية على الرغم من نواقصها، وعلى امتناع النخب العلمانية عن التخلي عن الديمقراطية وامتناعها عن الاستسلام للسحر المخادع للانقلابات العسكرية مهما رفعت من يافطات ليبرالية وحرياتية ووعدت بإخراج الدين من الحكم والسياسة.

هذه وضعية جديدة بالغة الأهمية للشعب التركي، ولنا شعوب الجوار الإقليمي. هذه وضعية جديدة تستحق التشجيع والرعاية والحماية بمضامين ديمقراطية يتعين معها على الرئيس المنتخب إردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية المنتخبة الامتناع الشامل عن توظيف الانقلاب الفاشل إن لمواصلة التجاوزات السلطوية ضد المعارضة، أو لفرض المزيد من إجراءات الحصار على الفضاء العام والمجتمع المدني، أو لعصف بمؤسسات وأجهزة الدولة التركية مدفوع بحسابات الانتقام السياسي والهوى الإيديولوجي. هذه وضعية جديدة تستحق حرصا فعليا من الإسلام السياسي في تركيا على الانفتاح على العلمانيين، وعمل جاد على إعادة التأسيس للحظة توافق وطني معهم ومع المعبرين عن المطالب المشروعة للأقلية الكردية. هذه وضعيه جديدة تستحق أن يحتفى بها من قبل الديمقراطيين في الشرق الأوسط بعيدا عن الهويات الإيديولوجية وتنازعات الليبرالية واليسار والإسلام السياسي، احتفاء يسجل السبق الذي يمثله فشل محاولة الانقلاب ويدفع إلى الوراء المتهافتين من أنصار القمع والانتهاكات والحجر على الشعوب الذين احتفوا بجهل شديد بالانقلاب وأملوا في الإطاحة بحكومة ديمقراطية منتخبة.

نقلا عن القدس العربي

علامات:
تحميل المزيد