بدا لي مهموماً، حينما سألتهُ، ماذا يعني لك الجمال؟ فزفر زفرة طويلة، تكاد تتساقط لها أضلاعه؛ وأجاب، هو أن "يتركني الناس ثلاثة أيام لشأني، من دون اتصالات، أو مصالح عمل"، ثم أضاف: "الجمال ما يفقدهُ المرء ويكون بحاجة ماسة إليه".
الجمال بشقيه المادي والروحي، حاجة فطرية للإنسان؛ لأنه روح الأشياء التي حولنا، وبريقها المكنون، وسرها المودع فيها، لا قياس ولا حدود ولا محيط له، يقول جوزيف أديسون: "لا يخترق الروح مثل الجمال".
وما يبدو قبيحاً لك هو جميل عند غيرك، ويعود السبب بذلك لعدم وجود مقياس، أو قانون واضح للجمال بين الناس، لأن فلسفته تكثر فيها المتناقضات، والمتشابهات، حتى بات باستطاعة المرء أن يدوّن ويبرهن ويناقش فيه، أكثر مما يستطيع في أي موضوع آخر.
وهذا كان واضحاً في آراء الفلاسفة والعلماء، على مر العصور، مثل أفلاطـون وسقراط وأرسطو والكندي والفارابي والتوحيدي والغزالي وغيرهم، فتجد آراءهم برغم اختلافها تارة، وتشابهها تارة أخرى، فإنها محاولات جادة للولوج إلى عمق الجمال، والإحاطة به من كل جوانبه.
ومن الناحية العامة، فإن "العمق هو المسافة العمودية من الأعلى إلى الأسفل" كذلك الجمال هو عُمق الأشياء وأعلاها الخيال، أو هو الغوص في مكنونات الأشياء والتعرف على خفايا مكوناتها فبه يهيمُ المرء وينتقل من عالم الماديات المثقل بالمصالح والمشاغل والتعب إلى عالم الروحانيات، من عالم المنطق والمعادلات إلى عالم المشاعر والخلجات؛ ليرمي تلك الأثقال من على ظهره، في محاولة منه للوصول إلى الاستقرار النفسي والروحي، والعيش مع الحب ومكنونات المشاعر وربما يصل إلى غايته بتأمله لوحة أو زهرة أو بسمة أو قطرة ماء أو قطعة خشب جوفاء! لتسكنُ روحهُ، ويهدئ روعهُ، أمام قساوة الحياة وتقلباتها المريرة؛ لأن بلوغ الجمال تحصيل حاصل للمتأملين.
فيهيمُ آخر في جمال الروض فيمشي في أروقتها، وأسواقها، وحدائقها، فيحلق بجمالها إلى السماء، ويهبط مطمئناً ليقبل صفحة الماء، ويبدو لي أن كل ما يبعث في النفس البشرية من السعادة والهدوء واسترخاء والشموخ، هو جميل!..
وقد أجاد الوصف الشاعر إيليا أبو ماضي حينما أراد أن يضع قاعدة عميقة المغزى للجمال؛ حيث قال:
أيهذا الشاكي وما بك داء ** كن جميلاً ترَ الوجود جميلاً
فصاحب القلب الأسود، البائس، الممتلئ بالأحقاد والحسد، لا يمكن للجمال أن ينفذ إليه، فلا يشعر بوجوه، ولا يسمع أنغامه، فلا يطرب للحن الشجي لخرير الماء، ولا يصغي لحفيف الأشجار، أو زقزقة الطيور على الأغصان، ولا يطرب لجُشْأَة الريح ولا لسِّواس الحلي ولا يطرب لأي ألحان!
على أية حال، إننا ومهما حاولنا الحديث كثيراً أو قليلاً حول الجمال، فإنه يظل بحراً لربما لا يستطيع الجمع الغفير أن يتحصل على كل كنوزه ويواقيته، ولكن إذا تشابكت الأيادي وتعانقت القلوب وتوحدت الجهود، استطعنا أن نكوّن نظريات متعمقة فيه، لتعود بالنفس إلى هدوء مشاعرها وصدق اطمئنانها، وصفاء وجدانها، ونقاء جوهرها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.