أنا شاب تونسي رُبيت منذ الصغر على حب رئيسنا السابق الحبيب بورقيبة، ليس تقرباً عائلياً من الحاكم – وهو بن علي الكاره لأمجاد المناضل الأكبر – ولكن لأنني وُلدت يوم وُلد الزعيم في 30 أغسطس/آب.
ولأنني خرجت للدنيا يوم ميلاده، أو هكذا قيل لي، فإنني كنت شديد الشغف به، وكنت أسمع عنه الكثير مما يحكى ويقال، وأستغرب عشق العواجيز والشيوخ له، وخاصة تباهيهم بالخطب التي كان يلقيها الرئيس الراحل على أمواج الإذاعة، أو في الاجتماعات العامة، والتي كانت بمثابة دروس المعلم في شتّى مجالات الحياة، بل كانت في مواضيع هي من صميم ظواهر المجتمع التونسي آنذاك، كحديثه عن الهندام والسلوك الحضاري والنظافة، وغير ذلك من المواضيع التي تهمّ حياة المواطن اليومية ويتدخل في توجيهها مرتكزاً على دوره كأب ملهم.
والجميع يتذكر "توجيهات الرئيس" التي كانت تبث يومياً في الإذاعة الوطنية وعلى شاشة التلفزة التونسية، وكانت تشد انتباه التونسيين والتونسيات من أبنائه وكأنها خرافة ليلية.
شئنا أم أبينا بورقيبة أحد صناع التاريخ الوطني الحديث، وخلدته الذاكرة الوطنية التونسية مهما اختلفنا معه، ولي في ذلك نصيب.
اليوم بعد 30 سنة من خلعه عن عرش حكمه عن سن 86 سنة، يطل علينا مَن ساهم في مساندة انقلابيي 7 نوفمبر/تشرين الثاني وشارك في إرساء دعائم حكمهم ثم جاءت رياح التغيير وبشائر الثورة لتعطيه فرصة تاريخية كوزير أول ثم رئيس جمهورية منتخب بسن يقارب التسعين حاملاً لقناع شيخه.
وهو في هذه السن الطاعنة والصلاحيات الشرفية كما جاءت في الدستور لم نرَه كرئيس جامع لكل التونسيين فهو يعيش زماناً غير زمانه، وما تصريحاته المكررة والمتواترة التي لا شيء فيها إلا استحضار لأرواح حسبناها انتهت من حِقبة الرئيس الأول وشيخوخة في الأفكار والحس البيروقراطي والتكنوقراطي علاوة على حنينه لتبرير الفساد والمفسدين.
سنتان ونصف من فترته الرئاسية لم نرَ فيها ولم نسمع أو نقرأ له أية رؤية تجديدية للدولة ومؤسساتها، ودورها ورسالتها، فكيف له أن يقودنا لتجاوز وضعيتنا الصعبة والحساسة التي نعيشها الآن.
هذا الرئيس – كما وصفه أحد الأصدقاء معلقاً على آخر خطاباته – ليس في النهاية سوى أحد تعبيرات الواقع السياسي المأزوم.
رئيسنا دون رؤية.. غير قادر على تغيير استراتيجيات خطابه المتشنج والتلعثمي تأسيساً لمدرسة التّأتأة تتخلّلها غمغمة وضربات هستريونيّة على الطّاولة وتلويح بالسّبابة وبعض من البذاءة.
"شيخنا السبسي" أو هكذا نخاله ذلك السلفي السياسي الذي توقف تفكيره عند فترة الستينات قياساً على قرارات ملهمه المجاهد الأكبر، وكأنه يريد أن يكرس صورة المستبد الحاكم الذي يبرر حكمه بأبوته للمواطنين، يعاملهم على أنهم أطفاله القصر غير البالغين، لا يقدرون على حكم أنفسهم، ولذا فهو الذي يوجههم ويعاقبهم، فهل يجوز في زماننا هذا خلط بين سلطة الأب الأخلاقية وسلطة الحاكم السياسية.
طبعاً من حقّه أن يتوهّم أنه بورقيبة أو أن يذهب في رحلة إلى الزّمن إلى شبابه، لكنّ هذا لن يخرجه من الوحل الذي يغمره يوماً بعد يوم.
لم يعد يخفى على أحد أننا ضحية تواطؤ سياسي أدى إلى احتواء ومحاولة تصفية مسار ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول – 14 يناير/كانون الثاني من خلال تركيز أسس التوافق بين الشيخين وتمرير سياسة إشاعة الخوف والقلق والغموض والاضطراب، وذلك لكي يعاد إنتاج شيخوخة الروح والأفكار والمشاعر والمصالح السياسية والواقع المتأزم.
إن جزءاً من عبثية هذا الواقع تلخصها قصة "قانون مصالحة الفاسدين والمفسدين"، سنتان من الإصرار على تمريره رغم أنوف الجميع، ورغم إصرار الجميع كل مرة على إسقاطه في الشارع والمجلس وهيئات التحكيم المختلفة ما زال المدافعون عنه (الائتلاف الحاكم) يتحايلون، تارة على النص بزعم تعديله وتارة على رافضيه بالتعتيم على مواعيد طرحه، وآخر محاولاتهم فرضه بحجة شرعية تمثيل الشعب، وكأنه صار شرطاً لبقائهم، أو ربما كان شرطاً لوصولهم.
هذا المشروع (النسخة المنقحة من قانون المصالحة الاقتصادية والمالية) الذي تقدمت به رئاسة الجمهورية هذه الأيام لمصالحة الفاسدين، يرسل إشارة واضحة مفادها أنه سيتم التسامح مع الفساد دائماً وأبداً، وأن سرقة المال العام ونهب موارد الدولة هي جزء من تاريخ تونس يكرر كل فترة وحين، وأن جوهر الثورة التونسية – التي اندلعت بحركة يائسة من رجل واجه ظلماً اقتصادياً واجتماعياً – ليست سوى تحالف الأضداد بوصول الشيخين لسلطة الحكم ومصالحة الفاسدين والمفسدين.
"المستبدون يحكمهم مستبد، والأحرار يحكمهم أحرار" قالها الكواكبي، ويبدو أن مقولته تلك ما زالت تملك قدراً من الصحة لا بأس به.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.